in

الجسور الهشّة للعبور بالتسوية السياسية

بلغ الصراع الليبي مراحل مُوغِلة في الصدام والعُنف انعكست في انقسامٍ عميقٍ وتشظٍّ بالغٍ غابت معهما أدنى درجات الثقة بين أطراف الصراع، والثقة فيمن يقود جهود التسوية وإنهاء الصراع ممثلاً في بعثة الأمم المتحدة، والثقة في جدوى الخيار التفاوضي (الحوار) لإنهاء هذا الصراع خاصة بعد التجربة الطويلة والمؤلِمة التي أعقبت الاتفاق السياسي في الصخيرات.

من جانبٍ آخر يُدرِكُ كثير من الليبيين اليوم أن الخيار العسكري لإنهاء الصراع أشدّ إيلاماً وأكثر تكلفةً وأثقل تبعةً من ولوج مسار التسوية والحوار والخوض فيه، وأن الخيار العسكري لن يكون إلا سبيلاً لتقويض الدولة وضياع الوطن؛ لذلك فإن مسار الحوار والتسوية صار اليوم طريقاً أوحدَ لإنهاء الصراع وإن اختلفت الأنظار والآراء في الآليات والأُطِر التي تُنجَز من خلالها التسوية، ويمكن إرجاع هذا الاختلاف إلى أمرين:

الأول: المخاوف القائمة لدى الأطراف بسبب غياب الثقة بينها، والقلق من عدم التزام أحدها بما يتم التوافق عليه، والعودة إلى مربع الصراع من جديد.

الثاني: حرص كثير من الفاعلين على أن تكون التسوية ضامنة لمصالحهم ومنسجمةً مع توجهات الأطراف الخارجية الداعمة لهم، مما يُعسّر عملية التفاوض وينحرف بها عن غايتها المتمثلة في خلق بيئة من الاستقرار تعبر بالوطن إلى مرحلة دائمة.

وفي ظل حتمية المضيّ في خيار الحوار والتسوية مع الخلاف حول شكل هذا الخيار وآلياته، فمن الطبيعي أن تكون الجهود المبذولة من بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا وتصوراتها عن التسوية محلّ انتقادٍ ومعارضة، وحتى رفض، وهذا ما يعني أن التسوية في شكلها النهائي لن تكون مثاليةً أو مرضية لأحد، لذلك فإن التركيز على ما ستنتجه التسوية أولى من التركيز على شكلها وآلياتها، لأن جانب الشكل والآليات -فيما يبدو- قد حسمته البعثة التي تعرف تعقيدات الصراع الليبي وتشابك المصالح بين الأطراف وتغيراتها السريعة بعيداً عن الشعارات التي تدّعيها بعض الأطراف.

إن مسارات التسوية المختلفة التي تقودها البعثة هي جسور هشّة بسبب ضعف أو غياب الثقة بين الأطراف، وتربّص الأطراف الخارجية بها، ولكنّها أيضاً السبيل الوحيد ليعبر الليبيون عليها من حالة الصراع والفوضى إلى مرحلة مستقرة ودائمة؛ لذلك فإن تحصين هذه الجسور (المسارات) ينبغي أن يكون من الخطر الأكبر المتمثل في محاولة العودة إلى استخدام الخيار العسكري، ولعلّ ما تمّ إلى الآن في اللجنة العسكرية المشتركة يعتبر قاعدة مهمة من شأنها أن تحصر حفتر وتحجّم دوره بشكل كبير، كما أن تجاوب حفتر مع مقترحات هذه اللجنة وما توافق عليه ممثلوه مع ممثلي حكومة الوفاق أفقده حصريّة تمثيل المؤسسة العسكرية التي يدّعيها منذ 2014.

وبالحديث عن المؤسسة العسكرية فإن هناك تخوّفاً مشروعاً حول منصب القائد الأعلى للجيش الذي تمثله السلطة المدنية، حيث أن هذا المنصب سيكون وفق ما يتم تداوله للمجلس الرئاسي مجتمعاً بأعضائه الثلاثة وإجماعهم، وهو ما يثير الهواجس حول تفرّد أحد أعضاء هذا المجلس بالمنصب أو تعطّل المنصب بسبب صعوبة إجماع أعضائه؛ لذا فإن معالجة هذا الأمر ضرورية، ولعلّ أنجع الحلول هو تجميد العمليات العسكرية إلا فيما يتعلّق بالمهام الواقعة ضمن إطار اتفاق اللجنة العسكرية المشتركة، وتأمين الحدود، ومكافحة الإرهاب من خلال تفصيل واضح ومتوافق عليه.

ويبقى أهم مسارات التسوية وأولاها بالاهتمام هو المسار الدستوري، الذي يعاني من تهميش بسبب انشغال مختلف الأطراف بضمان دورهم في المشهد الذي ستنتجه التسوية برغم أن إنجاح هذا المسار هو المعوّل عليه في الوصول إلى مرحلة دائمة ومستقرّة، وعليه فإن طرح البعثة الأممية لبدائل عن مشروع الدستور تماهياً مع الأطراف غير الراضية عنه ينبغي أن يجابه بالاعتراض الواضح والصريح، فهذا الاستحقاق الدستوري نتاج لهيئة منتخبة صوّتت على موادّه بالأغلبية، ومن حقّ الليبيين أن يقولوا كلمتهم فيه بالقَبول أو الرفض، ومن يعارض هذا المشروع عليه أن يحشّد الليبيين ليقولوا “لا” في عملية الاستفتاء، وأعتقد أن المجلس الأعلى للدولة الذي طالما تمسّك بهذا المسار مطالب من خلال كتلته المشاركة في حوار تونس بالتمسك به والحفاظ عليه.

بعد نجاح الحوار العسكري في غدامس… تونس تحتضن في 9 نوفمبر الحوار السياسي الليبي

ما الفرق بين تصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم؟