in

التسوية السياسية بين الواقعية المؤلمة والمثالية المستحيلة

الحديث عن التسوية السياسية يفتح مجالاً للمنافسة المحمومة والمناكفة والمزايدة بين الأطراف، ما يجعلها ساحة للصفقات وميداناً للخصومات، وموسماً ترفع فيه شعارات الوطنية، وفرصةً يُرمَى فيها المنافسون بالخيانة، ويتهمون فيها بتقديم مصالحهم والسعي وراء منافعهم، وهذا ما يجعل المراحل التي تسبق إنجاز التسوية أشد في حساسيتها وخطورتها من حالة النفير العام والحرب، فالجبهة الداخلية تكون في حالة تخلخل للثقة وتدافع على المكسب السياسي، على عكس الحرب الذي تتوحد فيه الجبهة الداخلية في سبيل تصديها للخطر الخارجي.

لماذا التسوية؟ يتساءل البعض عن مدى حتمية الذهاب في التسوية، وعن إمكانية وجود بدائل لها، وقبل الإجابة عن هذا التساؤل يجب الإشارة إلى أن جميع المعنيين بالأزمة الليبية داخليا وخارجيا يؤكدون على أن أي حل لليبيا يجب أن يضمن وحدة ترابها، وإذا كان هذا الأمر محلّ إجماعٍ لدى الجميع، فمن البديهي إدراك أن الحل العسكري غير ممكن لدى أي طرف، ولو كان ممكناً لأنجزه حفتر باجتياحه للعاصمة الذي تلقى فيه دعماً سخياً من دول مختلفة، وهو ما يجعل من التسوية السياسية ضرورة ملحة، خاصة في وضع بدأت فيه الخدمات في الانهيار الشبه التام، وكادت ملامح الدولة أن تختفي في ظل حكومة عاجزة نخرها الفساد، وحالة اقتصادية تتجه نحو الكارثة.

واقع التسوية بين ممكنها ومؤلمها: إذا كان المضي في الحل السياسي واقعاً لابدّ من خوض غِماره، فإن إدراك هذا الواقع ومعرفة الممكن فيه، وكيفية تحقيق هذا الممكن أمر مهم لضمان نجاح هذه التسوية وتحقيقها الحد الأدنى من التطلعات، وإذا كان الانتصار العسكري في جنوب العاصمة طرابلس قد أنهى أوهام الحسم العسكري لدى مجرم الحرب خليفة حفتر، فإنه لم يحسم الصراع بشمل تام، ولازال كل طرف يسيطر على جزء كبير من المشهد، ولكل طرف داعموه الذين يرون فيه الضامن لمصالحهم، وهذا الأمر يعني أن العملية السياسية لا يصنعها طرف بنفسه، أو يصمّمها وفق رأيه ونظره، لذلك فإن حديث بعض الأطراف عن هندسة العملية السياسية بما يوافق رؤيته وتتمنى نفسه ليس إلا مطاردة للأوهام ومراقصة للخيالات، فالعملية السياسية في ليبيا تحركها أيدٍ محلية وإقليمية ودولية، ولا يمكن لطرف أن يصممها أو ينجزها لوحده.

وإذا كان هذا واقع العملية السياسية التي ستُصنَع داخل دواليبِها التسوية القادمة، فإن من العبث محاولة صنع عملية أخرى لن يكون فيها أحد إلا صانعها؛ لأن ما يحرك أي عملية سياسية عاملان سيكونان غائبان فيها، هما المنافسة والمشاركة، وسيصبح هذا التوجه عزلاً ذاتياً لأصحابه عن واقعهم ويفقدهم تأثيرهم ويعطي الأفضلية للأطراف الأخرى، كما أن محاولة منع التسوية من أن تدور في دواليب العملية السياسية غير ممكن لاعتبارات من أهمها:

المجتمع الدولي الذي لديه أدواته لتمرير التسوية وجعل مخرجاتها واقعاً يفرضه من خلال المؤسسة الأممية ومجلس الأمن، وكذلك انخراط كثير من الأطراف فيها مما يجعل التخلف عنها مضرّاً بصاحبه نافعاً بمن شارك، وإذا كان هذا واقع العملية السياسية التي ستنتج التسوية فإنه يستلزم وجود تنازلات مؤلمة لا يمكن تفاديها، بل تفهمها حتى لا يحدث الانزلاق إلى تنازلات أكبر.

أيضاً فإن إدراك واقع العملية السياسية يحتم العمل على تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية من خلال الانخراط في هذه التسوية، ولعلّ أهم ما يطرح اليوم ويجب العمل على تحقيقه، هو تحصين الاتفاقية التركية التي كان لها الأثر الأبرز في صمود قوات بركان الغضب وتوازن القوى في الصراع، كما أن تركيا القوة الإقليمية الأبرز في التصدي لمحور الاستبداد الذي تقوده الإمارات ومصر والسعودية، وصارت من خلال هذه الاتفاقية مرتبطة مع ليبيا بمصلحة إستراتيجية لن تتنازل عنها بسهولة، أيضا ينبغي العمل على توسعة صلاحيات رئيس الحكومة القادمة وسحبها من المجلس الرئاسي الذي ينبغي أن يكون دوره في تحقيق التوازن طيلة الفترة التمهيدية.

القفز إلى الانتخابات: لا يختلف أحد على أن إجراء الانتخابات هو المدخل إلى حالة الاستقرار، ولكن محاولة القفز إلى الانتخابات مباشرة أمر يصعب تحققه بسبب عقبات هي محل نزاع وخلاف، أبرزها القاعدة الدستورية التي ستجري الانتخابات وفقها والقانون الانتخابي الذي يحتاج جهة تشريعية لإقرارها، أيضاً حالة الانقسام والتشظي، وما صاحبها من نزوح شرقاً وغرباً، مما يجعل القفز إلى الانتخابات محاولة سقوط جديدة في تنازع الشرعية وترسيخ الانقسام.

الأولويات في التسوية: إن ما يحدث اليوم من لغط ومناكفات حول التسوية ينطلق أغلبه من المنافسة والمغالبة السياسية، وسيكون -إذا ما تصاعد- السبب الأهم في تضييع المكاسب السياسية التي من الممكن أن نجنيها من الانخراط في هذه التسوية، والتي ينبغي أن يكون أهمها ضمان نهاية المشروع الاستبدادي وتحقيق التسوية لحالة من الاستقرار يمكن فيها إجراء انتخابات عامة بمرجعية دستورية متوافق عليها، وهذا يؤكد أن الأولوية هي العمل على تضمين التسوية إجراءات تحقق ذلك، ومن أراد أن يتنافس أو يغالب بعد ذلك فله أن يفعل.

“بومبيو ودي مايو” يشيدان بالتقدم الحاصل في لقاءات الحوار

صوان يثمّن رغبة تيّار “يا بلادي” في المشاركة في جلسات الحوار ويؤكد: لتحقيق أكبر قدر من التوافق يجب مشاركة الجميع