in

الترك في طرابلس…حديث في التاريخ 2/1 أشرعة “بارباروسا” أمام شاطئ تاجوراء

                 “الآتي أشبه بالماضي كالماء من الماء ابن خلدون

يحتدم الجدل حول أسباب قدوم العثمانيين إلى ليبيا وعموم البلاد العربية خلال القرن السادس عشر وضمها للدولة العثمانية، ويأخذ الجدل منحاً حدياً بين موقفين متصادمين، موقف يعتبره غزواً واستعماراً فرض على البلاد العربية حالة التخلف عن الركب الحضاري، وآخر يراه فتحاً وحماية لبلاد الإسلام والمسلمين من الغزو الصليبي.

اقتصر هذا الجدل في السابق على ساحات البحث العلمي التاريخي، ولكنه اليوم يتعمم على طول وعرض المنطقة عبر وسائط الإعلام الحديثة، بسبب بروز تركيا وريثة الإمبراطورية العثمانية كقوة إقليمية صاعدة، والأدوار التي باتت تلعبها في أزمات وقضايا المنطقة العربية، وهو مايدفع أنصار نظرية الغزو والاستعمار إلى اعتبار هذه الأدوار عثمانية جديدة تسعى تركيا المعاصرة بتمددها جنوباً وغرباً إلى استعادة الزمن العثماني القديم، وعلى الضد يعتبره الطرف الآخر تدخلاً مشروعاً لمساعدة الشعوب العربية المتطلعة للتغيير وإنهاء مرحلة الأنظمة العسكرية الدكتاتورية المسنودة من الغرب.

لايتأسس الحكم لدى الطرفين في غالب الأحيان على رؤية موضوعية، بل على الموقف السياسي التابع للموقف الإيدولوجي، أو العاطفي المتأثر بما تطرحه وسائل الإعلام، لذلك لا يقيم الصراع الدائر حاليا ولا السابق وفقا للمتغيرات في منطقة البحر المتوسط استجابة للتحديات والتطورات الطارئة، ولا حالة الصراع والعداء التاريخي بين الإسلام والغرب، أو التحولات الجيوسياسية العميقة الجارية في الإقليم والعالم في الوقت الراهن.

والنظر بعين العاطفة أو المقاييس الايدولوجية من شأنه إسدال ستار كثيف يحجب الحقائق ومن ثم تكون الأحكام خاطئة وبمضي الوقت تستقر كمسلمات يقينية لا يأتيها الباطل.

استدعاء التاريخ لتفسير الحاضر منهج سليم، فالماضي يمتد إلى الحاضر ومعاً يرسمان معالم المستقبل، ومن المتعذر فهم تحولات التضاريس على السطح دون الحفر لمعرفة ماحدث من تفاعلات في الطبقات العميقة خلال القرون الماضية.

الرواية المتداولة عن وصول الأتراك العثمانيين إلى طرابلس كما ذكرها ابن غلبون في مصنفه التذكار هي أنها كانت استجابة لنجدة طلبها أعيان وشيوخ طرابلس وتاجوراء من السلطان العثماني سليم الأول لتخليصهم من فرسان القديس يوحنا، وهي منظمة مسيحية مسلحة تابعة بشكل غير مباشر للسلطة البابوية ولها مركز إداري ومرشد أعلى، وقوة مشاة وأسطول بحري يمارسون القرصنة ويسطون على السفن والمدن الساحلية في البر الإسلامي، وفي الوقت نفسه يقدمون المساعدات والخدمات للحجاج المسيحيين وهم في طريقهم للأراضي المقدسة، اتخذت المنظمة من جزيرة مالطا مقراً بعد أن طردهم السلطان سليمان القانوني من جزيرة رودس، والمعادل لها اليوم في الغرب، الشركات الأمنية مثل بلاك ووتر أو فاغنر، والتنظيمات الجهادية كالقاعدة وشباب الإسلام في العالم الإسلامي السني، والحرس الثوري الايراني في الجانب الشيعي.

ومن دون إغفال العامل الاقتصادي، فإن الصراع الديني كان من أبرز الدوافع للقرصنة في تلك القرون؛ فالقراصنة المسيحيون مارسوا السطو على ممتلكات المسلمين كحرب صليبية، وقدموا الحماية للمسيحيين، وبالعكس فعل القراصنة المسلمون.

وقد برز في هذا المضمار الأخوين عروج وخيرالدين بارباروسا، وكان لهما دور بارز في إنقاذ نحو 70 ألفاً من مسلمي الأندلس، ونقلهم عبر البحر إلى الضفة الجنوبية للمتوسط والمساعدة على توطينهم، بعد تصفية الوجود الإسلامي في الأندلس على يد ملك الأراغون فردناند وملكة قشتالة ايسابيلا، ثم التصدي للغزو الإسباني للساحل الأفريقي.

فالقرصنة بالنسبة لبارباروسا ورفاقه جهاد ضد الصليبيين وحماية للمسلمين من بطشهم، وكانت رؤية أشرعة أسطوله عند خط الأفق قبالة شواطئ الممالك والمدن الأوربية كفيلة بقذف الرعب بين السكان ودفعهم للفرار نحو الدواخل للنجاة بأنفسهم، وقد أبقت القرصنة المتبادلة حالة الصراع بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي قائمة حتى مع عقد اتفاقيات الهدنة بين السلاطين العثمانيين وملوك أوروبا.

يقول شيخ المؤرخين الغربيين فرناند بروديل: “الغرب والإسلام يجمعهما تعارض عميق يقوم على التنافس والعداء والاقتباس. إنهما عدوان متكاملان، الأول ابتكر الصليبية وعاشها، فيما ابتكر الثاني الجهاد وعاشه”.

احتل الإسبان طرابلس سنة1510 وبعد عشرين سنة تنازلوا عنها لفرسان القديس يوحنا، وفي عام 1551 طردهم العثمانيون، وأُلحقت طرابلس ثم أغلب ما يعرف اليوم بليبيا بالدولة العثمانية.

ثمة تباين في الآراء بين المؤرخين حول قصة الوفد الطرابلسي الذي ركب البحر قاصداً الآستانة لطلب النجدة، فالشيخ المؤرخ الطاهر الزاوي يفضل التريث في التسليم بصحتها ويعتبرها مسألة غير واضحة، فلا وثائق تسندها ومن ثم ليس بوسعه كمؤرخ أن يعتمدها، غير أن توسيع زاوية النظر في أحداث الإقليم ستبصرنا بحقيقة طلب أهل الجزائر النجدة من السلطان العثماني بناء على نصيحة من بارباروسا، الذي أخذ على عاتقه مهمة تخليص الجزائر من الاحتلال الإسباني رفقة شقيقه عروج، وقد حمل بنفسه عريضة أهل الجزائر للسلطان، وإذا تحولنا إلى المحيط الهندي عند وصول البرتغاليين في توقيت متقارب مع وصول الإسبان للشمال الأفريقي، سنرى الممالك الإسلامية تستنجد بالعثمانيين لحمايتهم، سواء سلطنات الهند وسومطرة على الطرف الشرقي للمحيط أو سلطنة عدل ومومباسا على الطرف الغربي، ليصبح المحيط ساحة أخرى يمتد إليها الصراع بين الإمبراطوريات الصاعدة المتنافسة على طرق التجارة البرية والبحرية.

لن يكون أهل طرابلس استثناءاً ليستنكفوا عن طلب النجدة من الدولة الإسلامية الأقوى في القرن السادس عشر، وهم يواجهون خطر الاستئصال على يد الصليبيين، لكن ليس بالضرورة أن يتم الطلب وفقا للرواية المتداولة، لأن بارباروسا يجوب بأسطوله البحر ولا فرق لديه بين سفن الإسبان وفرسان القديس يوحنا مادامت رايات الصليب تتصدر أشرعتها، كما أن موقع طرابلس يحتم عليه السيطرة عليها وتأمينها لكي لا تتحول إلى قاعدة إسبانية للهجوم على تونس والجزائر.

لا يمكن دراسة غزو الأسبان طرابلس كحدث مقطوع الصلة عن سياق التطورات في منطقة غرب المتوسط، فالحملة الصليبية الإسبانية كانت تستهدف كل الساحل الافريقي، وقائد الحملة بيدرو نافارو وصل إلى وهران عام 1509 بأسطول يقدر بثمانين سفينة وزورق على متنها 15 ألف جندي يتقدمهم القساوسة والرهبان برئاسة الكاردينال خيمينث أشد المحرضين الكاثوليك على المسلمين في الأندلس، وبعد اقتحامها قتل نحو أربعة آلاف من السكان، وفي 1510 استأنف إبحاره إلى بجاية وطرابلس، وقد سبقت وصوله أخبار مذابحه فاستعد السكان للمقاومة بتعزيز التحصينات.

لا يُذكر بارباروسا كأحد المحررين لطرابلس، الروايات التاريخية الشائعة تذكر مراد آغا والريس تورغوت، لكن أسطوله وصل إلى الساحل الليبي ودخل في مواجهات مع فرسان القديس يوحنا وسيطر على تاجوراء وعين عليها أحد قادته وهو خيرالدين قرمان، وطلب من أعيان جنزور فسخ صلح أبرموه مع الفرسان، غير أنه ركز جهوده على الجزائر وتونس، تاركاً طرابلس لمراد آغا ورفاقه. ولما منحه السلطان سليمان القانوني منصب قيادة الأساطيل العثمانية بات لزاما عليه أن يشمل طرابلس بجهاده، ولم تكن سيطرة الإسبان وفرسان القديس يوحنا من بعدهم مستقرة، إذ لم تتوقف المقاومة من الأهالي برا ومن السفن العثمانية بحرا حتى تم إجلاؤهم وخضوعها في النهاية للدولة العثمانية.

إذاً، كان تحرير طرابلس من فرسان القديس يوحنا جزء من عملية تحرير واسعة للبلاد الإسلامية وإنقاذ المسلمين من حملة صليبية تستهدف تنصيرهم أو استئصالهم، وقد نهضت بهذه المهمة الدولة العثمانية باعتبارها الدولة الإسلامية الأقوى، من دون تجاهل نزعة التوسع التي دفعت العثمانيين للتمدد في ثلاث قارات، وهذا قانون عام إذ في كل العصور تنزع القوى الكبرى لتوسيع حدودها وتكريس نفوذها، وعند خطوط التماس المتقلبة بينها تشتعل الحرائق وتتدفق الدماء.

لأول مرة منذ تنظيمها… “فرانس فوتبول” تعلن حجب جائزة الكرة الذهبية لـ2020

بلدي ترهونة يوزع سيولة نقدية على مصرفي الجمهورية والتجاري الوطني بالمدينة