in

الليبرالية العربية بين الدكتاتور المُنقلِب والرئيس المُنتخَب

لم تعُد الليبرالية اليوم تُقدّم على أنها نموذج لنظام سياسي واقتصادي منافس لأنظمة أخرى مخالفة أو منافسة بقدر ما أصبحت تقدّم على أنها الأنموذج الوحيد القادر على تسيير الشأن السياسي والمجتمعي دون أي منافس ـ لأنها تمثل مرحلة نهاية التاريخ ـ لها أو بديل عنها. فأصبحت تقدم نفسها ويقدمها أتباعها وكأنها ضرورة ملحة تحتاجها كافة أقطار العالم خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وأفول نجم الشيوعية الماركسية في بدايات تسعينيات القرن الماضي.

وعلى إثرها أصبحت الليبرالية تقدّم على أنها ليست نموذجا أو نظاما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا من ضمن مجاميع النظم الأخرى المطروحة في السابق كنماذج متنافسة ومتصارعة فيما بينها أيها الأفضل والأنسب الذي يمكن أن يكون هو النظام السائد ـ بل أصبحت تقدّم على أنها الأنموذج المثالي الوحيد القادر والناجح لتسيير نظام العالم السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

ويمكن أن نحدد لحظة اتصال الفكر العربي بالخطاب الليبرالي في وقت مبكر يعود إلى دخول الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1798 ميلادي بقيادة ” نابليون بونابرت ” ثم ما لحقها من إرساليات علمية من مصر والشام إلى أوربا كان الهدف منها نقل الحداثة الأوربية إلى بلاد العرب بهدف بناء الدولة الحديثة كما يتوهمون أو يزعمون!

وهو ما مهد لدخولها – أي الليبرالية – وانتشارها لاحقا في اقطار الوطن العربي حين نجحت في إحداث وصناعة التيار الذي يطلق على نفسه أنه ليبرالي يتبني قيم ” الحرية والديمقراطية “، والأصل في العمل السياسي الاحتكام إلى صناديق الاقتراع و احتكامها إلى حرية السوق في التعاملات التجارية وأخذت من مبدأ ” دعه يعمل دعه يمر” شعارا تقوم عليه أسس الحريات في المجتمع .

إن الخطاب الدعائي الذي صاحب تسويق الدعوة لليبرالية وإلى “لَبْرَلَة ” العالم العربي حاول أن يمزج ويرادف بينها وبين الحرية والعدالة التي كانت مطلبا أساسيا لكل الأمة.

إلا أن هذه الشعارات أثبتت “جوفائيتها” وعدم مطابقتها للحقيقة وأنه لا أساس لها في الواقع الملموس إذا لم تكن في صالح التيار الليبرالي؛ وأن صناديق الاقتراع – الاختيار الحر للأمة – هي الحاكم الفيصل في الوصول الى السلطة، وتسلُّم إدارة البلاد لا قيمة له إن لم تؤدِّ نتائجه إلى نجاح التيار الليبرالي وتوليه زمام السلطة.

مع انبلاج ثورة الربيع العربي واحتكام كل التيارات السياسية في دول الربيع إلى مبدأ الاختيار الحر عبر صناديق الاقتراع التي أفرزت نتيجة غير متوقعة للتيار الليبرالي المنادي بالحريات، فكان الفوز الكاسح من نصيب التيار السياسي الإسلامي – الإسلام السياسي – الذي تصدر المشهد وحقق فوزا منقطع النظير أذهل كل منافسيه وجعلهم في حيرة من أمرهم، هل يسلمون بالنتيجة ويمارسون حقهم في المعارضة وترك ساحة الحكم لمن جاء بهم صندوق الاقتراع ؟ وهذا هو شعارهم وهذه هي عقيدتهم المعلنة إلا أن الواقع كان خلاف ذلك منذ اليوم الأول لإعلان نتائج الانتخابات التي رضي بها البعض على مضض بينما رفع البعض الآخر عقيرته بالقول إن صناديق الاقتراع ليس بالضرورة أن تأتي بمن هو أجدر بالحكم وإدارة الدولة.

وما إن سنحت لهم الفرصة حتى أعلنوا تأييدهم بل مشاركتهم في الانقلابات العسكرية التي عملت على الإطاحة بالنظم السياسية التي جاءت عبر صناديق الاقتراع عن طريق حرية الاختيار للشعب، وظهر الكثير من ممثلي الليبرالية لتبرير الانقلابات والدعوة لها وتأييدها وتبرير جرائمها ضد الشعوب التي قامت في وجه العسكرة وإعادتهم إلى الدكتاتورية المقيتة، في تعبير صارخ من التيار الليبرالي عن أن الديمقراطية وصندوق الاقتراع إن لم يأتِ بهم إلى كرسي الحكم والسلطة فهو مرفوض، وأنهم يفضلون الحياة تحت حكم عسكري دكتاتوري على العيش في ظل نظام سياسي يدّعون الإيمان به يأتي فيه الحاكم عن طريق صندوق الاقتراع ويسود فيه نظام القانون وتُكفل فيه كل الحريات في التعبير والتفكير دون قيد !

وهذه الليبرالية بنزوعها الاحتكاري هذا تَحسب أنها هي الفلسفة السياسية الوحيدة التي يمكنها حمْل شعار الحرية والقادرة على تجسيده بصورته المُثلى في الواقع العملي دون غيرها، وأنها تقبل العيش في كنف الدكتاتورية وتأبي أن يجسد مبدأ الحرية غيرها، وبهذا التصور العقيم تنفي أحقية غيرها من النظم والتصورات والأفكار السياسية في تبني مفهوم الحرية.

وهذا قائم على مبدأ ” إما أن أحكمكم وإما أزيحكم ” وأنها مستعدة للتحالف مع الدكتاتور للقضاء على منافسيها وأنها تضحي بالحرية للدكتاتورية للحيلولة دون وصول منافسها للحكم، خاصة إن كان من التيار الإسلامي – الإسلام السياسي الذي قرر دخول مضمار المنافسة والاحتكام ثم التسليم لنتائج صندوق الاقتراع الذي يجسد أسمى وأكمل صور الحرية في الاختيار دون أي تدخل أو وجه إكراه.

وقد أثبت ” الليبراليون العرب ” أن ليبراليتهم لها تجسيدها وتنزيلها الخاص في الواقع تتجاوز به مجال التنظير والتجريد، ولها مدلولها الواقعي الذي يتناقض مع مدلولها النظري على الورق، فهم في عمومهم أقرب إلى الانحياز بل الارتماء في أحضان الحكام المستبدين؛ خاصة كلما حمي وطيس التنافس بينهم وبين الحركات السياسية الإسلامية التي تقبل وتقر العمل السياسي، وتؤكد قبولها بالتسليم لنتائج الانتخابات واحترام ما تفرزه صناديق الاقتراع والتسليم بنتائجها، فترفع الدعاوى ضدها لتسويغ إقصائها واستئصالها وتترصد وتتصيد كل شبهة وتقتطع أي جملة من نص في سياقه التاريخي لترمي به الإسلام والمسلمين وتحرض السلطات على تلك الحركات الإسلامية التي تشكل منافسا حقيقيا لها في الشارع العام، وتحظى بثقة واحترام أكبر لدى القوى الشعبية.

بل نجد بعض دعاة الليبرالية قدّموا أنفسهم خدما وموظفين بالمؤسسات المدنية التابعة والمُشرعنة للعسكر والمستبدين، وعاملين على تعطيل المؤسسات المدنية الحقيقية الموجودة في الدولة عبر تنفيذ قرارات وسياسات وإملاءات العسكر على هذه المؤسسات وجعلها مرتبطة بالاستبداد سواء كان عسكريا أو استبداديا يتخفى بقناع وهمي بمسمى براق فضفاض لا حقيقة ولا وجود له.

والحقيقة التي عليها أغلب من يمكن أن يطلق عليهم ” ليبراليون عرب ” في فترة ما يعرف بالثورة المضادة أن الكثير منهم انكشف أمرهم وظهرت حقيقتهم الناصعة وطبيعتهم التي تحولت إلى سماد في تربة الاستبداد والعسكرة، وكلاب حراسة على أبواب الطغاة، وأدوات فاتكة تعمل بجد وحرص وإخلاص لترسيخ الطغيان، وأصبح هؤلاء الليبراليون من نخب الاستبداد ودعاة الاستعباد، وجعلوا من الليبرالية والدكتاتورية وجهان لعملة واحدة فاقدة كل القيم، سواء كانت مادية أو معنوية، عدمية الأخلاق، والاقتران بينهما أمرا حتميا لازما لا محيد عنه ولا فكاك منه.

مراقبون: تواصل ترامب وأردوغان بطاقة عبور لحسم الوفاق سرت والجفرة عسكريًّا

باشاغا يتابع أعمال إدارة حماية البعثات الدبلوماسية ضمن خطط الوزارة لبسط الأمن