in

حفتر في زمن الكورونا

في الوقت الذي يعيش العالم جائحة كورونا التي عصفت بكثير من الدول، ووضعتها في حالة من الاستنفار والقلق، وجعلتها تسخّر كامل إمكانياتها لمجابهة هذه الجائحة، بل تعمل كثيرٌ من الحكومات على توفير كل ما يمكن لإِلزام الناس بالبقاء في بيوتهم رغم ما سيترتّب على هذه الإجراءات من خسائر وانكماش اقتصادي لهذه الدول، ستكون له -بحسب تقارير- تداعياته فيما بعد على خريطة التأثير الدولي، والنظام العالمي.

في ظلّ هذه الجائحة العالمية لم يكن الليبييون استثناءً، بل طالتهم تداعياتها ومخاوفها التي كانت وطأتها عليهم أشد، وحملها عليهم أثقل، فالعاصمة طرابلس ذات الكثافة السكانية الأكبر يواجه كثيرٌ من المواطنين فيها صعوبةً للمكوث في بيوتهم، لأنّ أحياءهم إن سلمت من تفشّي وباء كورونا الذي بات قريباً منها بعد تسجيل الإصابة به، فهي مهدّدة على الدوام بقذائف مليشيات حفتر المجرمة، والتي تمطرهم بوابلٍ منها في الغدوّ والرواح وكلما اشتهت غرائزُ الإجرام فيهم رؤيةَ أشلاء الأطفال ومِزَق الأجساد وبرك الدماء.

لم يكن إجرامُ حفتر مقتصِراً على أهل العاصمة، بل اكتوى به كلّ الليبيين، وأوّلهم أنصارُه الذين أوعز إليهم أن يقفلوا موانئ النفط ومنشآته، ليكونوا كمن شدّ الخناق على رقبتِه ليمنعَ عن نفْسِه النفَس، فتزاحموا -والوباء يهددهم- أمام المصارف الخاوية يستجدون مرتباتهم، وبل جعل هذا الإغلاقُ حكومة الوفاق الوطني عاجزةً عن صرف مرتبات موظفيها لما يقرب من ثلاثة أشهر، وإن استطاعت صرف هذه المرتبات في غرب ليبيا، فلا يُعلَمُ إذا أحالت مرتبات المنطقة الشرقية هل ستدفعُ مصارفُها للناس مرتباتهم وقد أصبحت هذه المصارف كلأً مباحاً لأبناء حفتر وحاشيته وبهائمه يرتعون فيها نهباً وسرقة، وهذا ما صرّح به محافظ المصرف المركزي الموازي بأنه سيتم تخصيص هذه الأموال للمجهود الحربي.

حفتر الذي لم تتوقف مليشياتُه المرتزقة وعصاباته المجرمة عن قصف العاصمة طرابلس، خرج المتحدّث باسمه ليعلنَ قبولَه بالهدنةِ الإنسانية بعد دعوة أمريكية لا يجد مناصاً من الاستجابة لها وإن ظاهراً، غير أنه لم تمضِ ساعاتٌ حتى عاد القصف ليحصد من أرواح المدنيين الآمنين ويلحق الهلاك والدمار ببيوتهم ومتلكاتهم، وهذا ما جعل حكومة الوفاق تطلق عملية عاصفة السلام لتمارس حقها في الدفاع عن النفس وتقوم بواجبها في حماية المدنيين، ليشعل حفتر فتيلاً آخر للموت في جبهة أبوقرين ولتسيل الدماء لا لشيء إلا لمحاولاته اليائسة والبائسة في حسم معركة لن ينتصر فيها إلا الوطن وإن أثخنته الجراح.

طول الصراع الذي يخوضُه الليبيون وهم يدافعون عن حلمهم في الدولة المدنية التي تقوم على مبادئ المواطنة وسيادة القانون- هذا الصراع الطويل ما ينفكّ يكشف كلّ يومٍ عن مقابح الاستبداد ومثالب الدكتاتورية التي تجسّدت في شخص حفتر وعصاباته ومشروعه الذي استباح كلّ شيء، وتجاوز بتعطشه للسلطة وشَبَقِه بكرسيّ الحكم كل معاني المروءة ومواقف الإنسانية، بل إنه يجد في معاناة الناس وقسوة الظرف عليهم فرصةً ينبغي انتهازها لتحقيق مأْربه والوصول إلى مطلبه.

الأزمات التي مرّت وتمرّ على ليبيا دائماً ما كشفت عن المعدنِ النفيس لمجتمعنا، والذي مهما علَا عليه صدأ التجهيل ورواسب الصراع وقتامة الواقع، فإن هذه الأزمات بأُوارها ولهيبها تجلو عنه الصدأ وتنفي عنه الخَبَث، وهو ما نلمسُه من استجابة الناس الواسعة للإجراءات، وتطوّع الكثير منهم في الجهود الوطنية لمكافحة هذه الجائحة، والمساهمة في تقليل تداعياتها، بل إن أجهزة الدولة المعنية على قلة إمكاناتها وضعف مواردها لم تنتظر الميزانيات لتتحرك، بل سخّرت جهودها المتاحة للتعامل مع هذه الجائحة، فالأجهزة الصحية والأمنية والبلديات كانت حاضرةً بما تستطيع، وهو ما يؤكد أن الليبيين قادرون على بناء دولتهم والنهوض بوطنهم.

إن ليبيا بتضحيات شهدائها ووقوف أبنائها وثباتهم في الأزمات والمحن حصينةٌ من جرثومة الاستبداد، عصيّةٌ عن أن تنالها عصا الدكتاتورية أو نير الاستعباد، وكما صمدت في كثير من منعطفات تاريخها ومنعرجاته فهي قادرة بعون الله تعالى أن تتجاوز الأزمة وتثبتُ في البلاء، لتنجوَ من وباءُ كورونا، ولتسحقَ أوثانَ الاستبداد وأصنامَه.

وصول ناقلة نفط تحمل 37 مليون لتر من البنزين إلى ميناء الزاوية

التزام المواطنين بالحجر الصحي رغم تأخر المرتبات وكثرة المتطلبات دليل على الوعي