in

حتى لا تكون القبيلة مطيةً للاستبداد

تصريحات الرئيس التونسي قيس سعيّد بخصوص رؤيته لحل الأزمة في ليبيا عبر الدعوة إلى ملتقى للقبائل الليبية كشف عن حالة السطحية في فهم الأزمة الليبية لدى مؤسسة الرئاسة التونسية، وأنّها غير واعية بحقيقة الصراع في الدولة الجارة والشقيقة ليبيا.

سلوك “سعيّد” الخائف والحذِر في تعاملِه مع الأزمة الليبية سببه خشيتُه من أن يُحسب على أيّ محور أو مشروع في المنطقة، وهو ما جعله مرتبِكاً ولا يملك أي رؤية للتعاطي مع الأزمة، بل جعل الليبيين يشعرون بحالة من الانزعاج والضيق بسبب طرحه الذي يُخفي وراءه نظرة استخفاف وانتقاص للكيان الليبي، فرؤيته لحل الأزمة الليبية عبر دعوة قبائلها إلى الاجتماع عنده يعكسه تصوره للمجتمع الليبي بأنه مجتمع بدائي لا يملك من أشكال التكتل ونماذج التجمع الإنساني إلا القبيلة، وهذا بلا شك انتقاص غير مقبول من دولة جارة يفترض أن تكون مؤسسة الرئاسة فيها مدركة لحيثيات الأزمة وأبعادها.

ومع ذلك قد يجدُ المتابع للمشهد الليبي العذرَ لـ”سعيّد” في رؤيتها هذه، خاصةً وأن الحراك والخطاب القبليّ ينشط بشكل مكثّف ضمن منظومة الاستبداد التي يسعى حفتر لبناء أركانها، فهو محتاجٌ للقبيلة كي يوطّد أركان حكمه الذي يحاول إرساءَه على جماجم الليبيين وفوق أشلائهم، والقبيلة بعشوائيتها وفوضى قيادتها وتصدّر الجهلة والفاسدين فيها يجعلها الأداة الأمثل في يد المستبدّ ليكون الواجهة التي تسبّح بحمده وتقدّس له.

لا يمكن إنكار الحضور القبلي في وعينا المجتمعي كملاذٍ يلجأ إليه الفرد ويحتمي به، وقد ازدادت أهمية الدور القبلي بانكماش سلطة الدولة وتراجع أداء مؤسساتها، غير أن تنامي الدور القبلي على حساب كيان الدولة يجعل حالة الهشاشة المجتمعية هي السائدة، ويجعل من التعصّب للقبيلة وموالاتها مقدّماً على الانتماء الوطني، وتصبح بذلك مفاهيم الدولة المدنية وحقوق المواطنة واحترام الدستور والقانون لا معنى لها.

المستبِدّ يجد في الزخم القبلي ما يشبع تعطّشه إلى التمجيد والتعظيم والهتاف بحياته واسمه، كما أن سهولة تحكّمه في هذا الزخم من خلال صناعته للقيادات القبلية الموالية له والتحكّم فيها أمر سهلٌ وهيّن، خاصّة إذا أتقن المستبِدُّ كيفية التلاعب بالتوازنات القبلية واستطاع خلق تنافسٍ بين القبائل في إظهار الولاء له والخضوع لإرادته، وما نشهده اليوم في تجمعات القبائل وما يحدث بينها من “مفاخرات ومنافرات”، ومكاثرة بين من يتصدرون قيادتها في أعداد أبنائهم الذين قدّموهم قرابين على مذبح الاستبداد، وتسابقهم في تلاوة عهود المبايعة والموالاة شاهدُ صدق ودليل حق على قبح هذا التوظيف للقبيلة وجعلها مطيةً للمستبِدّ يرتقي بها سُدّة الحكم ليُذِلّ الرقاب، ثم يورّث حكمه لأبنائه بمباركة الزعامات القبلية التي صنعها.

القبيلة في وظيفتها الطبيعية لا ينبغي أن تتجاوز إطار التكافل الاجتماعي، والحفاظ على أواصر الصلة والرحمة فيما بين أفراد المجتمع، ومتى تعدّته إلى التوظيف السياسيّ كانت جرثومة الفسادِ التي تقضي على جسد الدولة وكيانها بما تحمله معها من عصبية ووساطة ومحسوبية تسوّغ الفساد وتُلجِمُ الحقّ وتُعلي الباطل، وتغيب معها كلّ معاني التنافس السياسي الذي ينبغي أن يقوم على تخيّر البرنامج الانتخابي الأصلحِ والأنفع، هذا التنافس الذي يفرضُ على كل جسمٍ سياسيٍّ -حزباً كان أو تكتلا أو تجمعاً- أن يطوّر من نفسه ويصلح من شأنه لينال ثقة الناس ويفوز باختيارهم.

وما نراه اليوم من انجرار المُنادين بالدولة المدنية إلى منزلق النعرة القبلية -وإن أُلبسَت أحياناً لباس الجهوية أو المناطقية- ينبغي أن يُرفَض حتى وإن كانت غايته رفضَ الاستبداد ومناوأة حكم العسكر، فمدنية الدولية لديها من أدوات الرفض وأشكال التكتل والتجمّع ما يجعلها غنيّةً عن جرّ القبيلة إلى ميدان السياسة وتوريطها في مستنقع الصراع.

وأقبح من هذا ممارسات بعض السياسيين الذين يرفض أحدهم الفكرة الحزبية ويراها خطراً على العملية السياسية، ويدعو إلى إلغاء دور الأحزاب بدعوى أن المرحلة الوطنية لا يتلاءم معها وجود مثل هذه التكتلات، وحقيقةُ الأمر أن عجز مثل هؤلاء عن بناء تكتلٍ سياسي يجعلهم يستشعرون خطر ذوبانهم وتلاشيهم في خضمّ التنافس الحزبي الذي -بعكس ما يدّعون- هو ما يحفظ التجربة السياسية ويضمن تراكم الخبرات الوطنية في ميدان السياسية ويؤطّر عملية التنافس بينها ضمن إطارها الوطني.

كرموس يدعو الوفاق لقطع الطريق على الموازية وحماية ممتلكات الليبيين

تونس والولايات المتحدة يتفقان على ضرورة استئناف المسار السياسي في ليبيا