in

فبراير.. حتمية التاريخ وزلزلة التغيير

لا تقترب ذكرى ثورة فبراير إلا وعاد الحديث عن جدواها وأثرها على الوطن، وما أعقبها من تغيير، تتصادم فيه الآراء بين مؤيد ورافض ونادم، ولا شكّ أن سوء الأوضاع التي أعقبت هذه الثورة هي ما جعلتها في ميزان النقد بين مادح وقادح، بين متعصّبٍ لها يراها ثورة مباركة وآخر متعصّب ضدّها يراها نكبة مشؤومة، وثالثٍ متّزنٍ يقرأُ المشهد ويراجع التجربة الطويلة المستمرّة، ولعلّ هذا النوع الأخير هو ما يعنينا ويهمّنا أن ننهج نهجَه ونسيرَ سيرتَه لقراءة هذه الثورة المحورية في تاريخنا الوطني، ونراجع سياقاتها ونتأمّل في منعرجاتها لنزداد فهماً لكياننا كدولة ومجتمع ووطن.

إنّ ثورة فبراير ليست فعلاً اختيارياً بقدر ما هي سياق طبيعي لحركة التاريخ، فالنظام الاستبدادي الذي جثم على صدر ليبيا أكثر من أربعة عقود كان قد بلغ مرحلة الشيخوخة والهرم، والذي أثبتت محاولة الإصلاح في مطلع هذه الألفية أنه عصيّ عليها، وأن جرثومة الاستبداد والفساد فيه لا علاج لها إلا الاقتلاع رغم ما سيتلو هذا الاقتلاعَ من مضاعفات وعللٍ كانت كامنة في جسد الوطن فاستستفزّتها زلزلة التغيير ورياح الانتقال إلى مرحلةٍ أخرى.

إذاً فثورة فبراير قدرٌ تحتّمه سُنن الحركة البشرية في مجتمعاتها، ثُم إن هذا القدر تؤول نتائجه بحسب وعي هذه المجتمعات ومقدرتها على إدارة هذا التغيير والاستفادة منه، ولا شكّ أن وطأة العقود الأربعة بثقلها المستبّد وأمدها الطويل أنهكت الوطن في كيانه دولةً ومجتمعاً، فكان اختبار التغيير مزلزلاً لأركانه، كاشفاً لعلله وفاضحاً لأدوائه، وأشدّ ما ظهر هذا الضعفُ في الطليعة التي تعدّ نخبة المجتمع وقائدتَه في محنته ومرشدتَه في أزمته، فلم تستطع هذه النخبة أن تدير عملية التغيير كما تطلّع إليها الليبيون، وسرعان ما أدارت معركةً محتدمةً من الصراع الموهوم استعارت شعاراته الجاهزة من مشاريع الثورة المضادّة ودخلنا في متاهةٍ من التجاذب السياسي الذي عطّل المرحلة الانتقالية، وأوجد مساحاتٍ من الفراغ سرعان ما تمدّد فيها المشروع العسكريّ كنموذج للإنقاذ الوطني المزعوم، لتضحي نخبة الثقافة المزعومة ومدّعو المدنية بشعاراتهم فداءً لحذاء العسكر وعصا الاستبداد.

وعلى الطرف الثاني من الصراع الموهوم عجز التيار الإسلامي من صياغة مشروعه الوطني الذي يلبي متطلبات مرحلة التغيير ويتفهّم واقعه ويُحسن التعاطي مع معطيات هذه البيئة الجديدة المحتقنة بالمشاريع والتوجهات المختلفة، بل انجرّ في غالبه إلى سياق المصادمة والإقصاء، مبتعداً عن محاولات التقارب والاحتواء.

إن الصراع الذي نتج بعد فبراير كشف عن حالة الهشاشة الوطنية في كل مستوياتها، حتى الاجتماعيّ منها، والذي جعل من توظيف الخطاب القبلي واستغلاله أشدّ خطورة وأسوأ أثراً من استغلال الخطاب الديني، بل إن حالة الهشاشة هذه أصبحت تستوجب مراجعة مفهوم الهُوية الوطنية الجامعة، ومدى رسوخها في الوعي الجمعي لمجتمعنا.

ثم إنّ الصراع الذي نشهده اليوم -وقد بلغ المدى الأقصى في شدته وعنفه- يعبّر عن هذه الهشاشة التي أدّت إلى انهيار المنظومة القيميّة وتمزّق الوحدة المجتمعية، مع ارتفاع حدة الاستقطاب المناطقي والجهويّ، وهذا ما يؤكد أنّ الاستبداد الذي استمرّ أربعين عاماً ونيفاً قد نخر بفساده جسد الأمة الليبية وجعل لبّها خواءً وإن كانت في ظاهرها مرتاحةً آمنةً، وهو ما يؤكّد أن المعركة القائمة اليوم ضدّ مشروع الاستبداد الذي يرعاه الجيل الجديد من دكتاتوريات الخنوع والتطبيع هي الخطوة الأولى في سبيل استعادة الهوية الوطنية الجامعة، وإعادة بناء الكيان الليبي الذي تآكل في ظل عفن الاستبداد وجهل العسكر.

وحتى لا تكون الصورة قاتمة كما يراه كثير من المتشائمين، فإن هذه التسع التي تلت فبراير رغم قساوتها ومرارتها، قد رسّخت في نفوس كثيرٍ من الليبيين تجارب صادقةً جعلتهم أكثر مرونةً على إدارة الخلاف فيما بينهم، وأكثر مقدرةً في تقبل الاختلاف والتعايش معه، وهم الجيل الذي اكتوى بنار الصراع وذاق ويلاته وخبِر تَبِعاته وهم المعوّل عليهم في أن يستنقذوا هذا الوطن من أزمته بعد دفعوا ضريبة التغيير المستَحقّة دون منّة أو تفضّل، وهذا ما نأمله بتشكّل تيار وطني يحمل هذا العبء وتلك الأمانة.

أعضاء من هيئة الدستور ردا على تصريحات السيسي: لا يحق لك التدخل في مسألة توزيع الثروة في ليبيا

الفرق بين الكورتيزول والكورتيزون