in

أيها التائهون في ضواحي طرابلس عودوا إلى أدراجكم فإن الدول عواصم

أجمع أغلب العلماء على أن العاصمة هي رأس الدولة التي يدار منها نشاط كل المدن الواقعة في نطاق جغرافي معين بغض النظر عن الحدود السياسية المتمثلة في الحدود بين الدول؛ وذلك لأن نشاطات العاصمة تحسب بكمية التفاعل بين شركاء المصلحة، وليس على أساس جهوي أو اجتماعي، وهي واجهة الدولة التي تنسج منها شبكة العلاقات الدولية المختلفة.

ووفقاً لتعريف معجم المعاني فإن العَاصِمَة هي: “مدينةٌ يُدَارُ حُكم البلاد منها وتقع فيها أهمُّ مؤسَّساتِ الدَّولة”. وقد وردت العاصمة في المعجم الوسيط بهذا التعريف: “( العاصمة ) المدينة وتطلق على قاعدة القطر أو الإقليم.

فالعاصمة هي مركز للتفاعل النشط وعنوان الحضارة؛ لما تمثله من تجمع سكاني متنوع، فيه من المقومات المعيشية والانتاجية، ما يجعل مصالح الناس متبادلة، ولهذا يجتهدون في الحصول على مكان للاستقرار بها. وهذا التنوع يولد بطبعه إنتاجاً فكرياً وابداعياً، هو خلاصة ثقافة مجتمع بأكمله، ولا يقتصر على سكانها الأصليين.

فقد عرفت البشرية منذ القدم العواصم كمراكز يتمحور حولها محيط جغرافي معين يشرك السكان في نشاطاتها، ومن هذه الأمثلة، مدينة اثينا عاصمة اليونان، حيث يعود تاريخها إلى أكثر من 7000 عام قبل الميلاد، والعاصمة الفلسطينية القدس، وقد ظهرت منذ أكثر من 6000 عام، والعاصمة اللبنانية بيروت والتي يرجع تاريخها إلى ما يزيد عن 250 عام قبل الميلاد…….إلخ

أما طرابلس فكانت نشأتها كحلقة وصل تربط دول العالم بأفريقيا، وازدهرت هذه المهمة في القرن السابع قبل الميلاد زمن الفينيقيين، حيث كانت محطة تجارية وسوق لتصريف المواد الأولية من إفريقيا السوداء إلى باقي دول العالم عبر البحر المتوسط، واستمر دور هذه المدينة في مجال التبادل التجاري والمعرفي بين الشمال والجنوب. ولم يكن هذا الاختيار بدافع سياسي أو اجتماعي، وإنما فرضه توسط موقع المدينة بين شرق وغرب أفريقيا. فهي نقطة تلاقي طبيعية، ومن هنا كانت أهميتها، وهذا ما يميزها عن باقي مدن ليبيا المتناثرة والتي لا تبخسهم العاصمة حقوقهم، ولكنها تخدم الجميع؛ لأنها مركزهم. هذه الأهمية جعلت الملك إدريس يتمناها لمدينته المفضلة البيضاء، فحاول نزع صفة العاصمة من طرابلس، ولكنه فشل ولم يفلح في أن تكون مدينة البيضاء بديلاً عنها، وعاد إليها معمر القذافي بعد أن حاول أن يخص مدينة سرت بمعمار، بقى كثير منه مهجوراً.

وبعد ثورة فبراير برز مصطلحان (سقوط العاصمة، وتحرير العاصمة)، والحقيقة هي أن العاصمة لم تسقط ولم تتحرر، بل حافظت على تاريخها الممتد قبل زمن الملك إدريس والقذافي من بعده.

هذه الحقائق لا يعيها قادة مليشيات القبائل وشركائهم الملحدين الروس والمرتزقة السودانيين الذين اشتراهم بدو الإمارات لدعم بدو ليبيا، والذين يهجمون جميعا على طرابلس، وهم ينتهجون منهج المغول عندما اجتاحوا العراق، ولم يدرسوا التاريخ كي يتعظوا من دروسه، فالمغول أنفسهم اكتشفوا خطأهم في تدمير حضارة بغداد، وكفروا عن سيئاتهم ببناء حضارة في بلاد الشام.

وما زالت العاصمة تقاوم محاولات تفريغها لصالح القبائل الجاهلية مثلما حصل في بنغازي، هؤلاء البدو لا يستطيعون استيعاب خصوصيتها، ولهذا يعملون على إطفاء بريق عروس البحر، التي تتميز عن مناطقهم بانعدام النظام القبلي في تكوينها، هذا النظام عندما حل في عاصمة أفغانستان جعلها دولة تغرق في ظلمات الجهل رغم موقعها بين دول نووية. وضاعت اليمن؛ بسب تغلغل النظام القبلي في عاصمتها، وصارت الحرب هي العنوان الوحيد الذي تجتمع عليه عقول القبائل المتناحرة على السلطة والمال.

اليوم يلاحظ المتتبع للشأن الليبي، أن المشكلة الحقيقة للأزمة الليبية، هي ممارسة العنف السياسي بدل العمل بالحوار كأداة لحل الخلافات. هذه النظرة تم تحديدها من الخارج والتي تعد من الناحية العلمية الأكثر تجرداً وموضوعية. حيث يقول الجنرال/ (فنسنت ديسبوغت): “الانتصار في الحرب بليبيا حققناه تكتيكياً وخسرناه استراتيجياً، فإذا كنا قد حققنا الهدف العسكري، فإن السلام الذي توخيناه وهو تتويجاً للحرب ما يزال مفقوداً”. وفي نفس السياق يقول المنسق الأوروبي لشؤون مكافحة الإرهاب: “العمليات العسكرية للتحالف في ليبيا عام 2011، كانت ناجحة، ولكنها وضعت البلاد في نفق مظلم، والصراع لا يزال مستمراً”. هذا الصراع ناتج من التعصب الجهوي الذي يعكس قدرة بعض القبائل على التحشيد لكل أفاق قادر على استغلال جهلها واستعبادها، فتدفع بأبنائها كقرابين لجبروته، وفق المبدأ الجاهلي وهو السيطرة على الأرض بدل الإقناع بالفكر، والجميع يفلت من العقاب رغم جسامة جريمة التمرد.

لقد ابتليت البلاد بسياسيين فيهم كثير من الجهويين الذين وصل بعضهم إلى السلطة، بفضل أصوات أقاربهم بعد أن عزف الناخب الليبي عن المشاركة في انتخابات البرلمان مثلا، هؤلاء لا يعون أهمية وجود سلطة مركزية لم تتعود البلاد على سواها ومقرها رأس الدولة عاصمتها، وأن تفتيت المركزية ما زال وقته مبكراً في دولة بكر من حيث الممارسة السياسية، ويعوزها العلم وتفتقر لثقافة الاختلاف التي تنتج الإبداع التنافسي. وفي ظل سلوك الولاء وسياسة الإقصاء الذي يسيطر على عقول المتصدرين للمشهد السياسي، لا يمكن أن تتحقق أي مقومات طبيعية للحياة دون نظام مركزي ينظم العلاقة بين الناس. هذه العلاقة صارت متوترة جداً بعد أن تمرد بعض القبليين الأشد جهلاً على سلطة العاصمة، حتى صارت كل مدينة تتصرف بهواها، وتمنع الخدمات والإيرادات عن الدولة لمجرد قدرة جماعة مارقة على قفل أنبوب نفط أو غاز أو ماء أو السيطرة على مرفق استراتيجي!!

ولعل الخطأ الأول الذي أظهر لنا هذا العبث والاستهتار بمقدرات البلاد، بدأ عندما رحل البرلمان عن العاصمة، مقره الطبيعي، تاركا فراغا سياسيا، ليقع بين أيدي الجهويين. ولم يكن حال البرلمان أخطر من حال المؤتمر الوطني الذي صمد رغم عيوبه أمام أكثر 200 حالة اقتحام لمقره، وقد تم تعليق كرسي رئيس المؤتمر الوطني على عمود كهربائي، الأمر الذي لم يتكرر بعد تشبث رئيس البرلمان بالسلطة؛ بسبب احتماء هذا الأخير بقبيلته وأبناء عمومته. هذه النعرة القبلية التي أنهكت قدرة مؤسسات الدولة على العمل؛ بسبب المصابين بمرضها وهم الذين يسعون لفرض مناصب دائمة وثابتة على مقاس أشخاص بعينهم، رغم أنهم غير منتجين وليس لهم أي ماضٍ إبداعي أو تاريخ نضالي يركن إليه. هذا السلوك لا يمكن أن يحصل في العاصمة وهو أحد الفروق المهمة.

فقد استطاع بعض الانفصاليين من شمال برقة، تكوين حكومة موازية بدعم قبلي، فأقحموا المورد الوحيد للبلاد وهو النفط، في دائرة الصراع السياسي، حيث قفلوا الأنابيب التي وقعت في نطاق سيطرتهم ومنعوا تصديره مما أفقد البلاد ما يقارب 160 مليار من دخلها، وفق ما أفاد به مصرف ليبيا المركزي، وتضامنت معهم مليشيا من منطقة الجبل الغربي، فألحقت بالبلاد خسارة 27 مليار أيضاً، وترتب على فرض تعيين 28000 كحرس للمنشآت النفطية في المؤسسة الوطنية للنفط، هيمنة هذا الجهاز على مورد البلاد الوحيد، حيث حَوّلوا هذا الصناعة التي يجهلون أبسط مقوماتها المهنية، إلى مراكز ابتزاز للحصول على المال وسرقة المشتقات النفطية المدعومة وتهريبها، فأفلسوا البلاد وجوعوا العباد. هذه الأضرار ألحقتها مليشيات بعيدة عن طرابلس، وبعضها تدعمها وتدافع عنها القبلية، التي كلما حاولت الدولة السيطرة على مواردها، تثار نعرتها.

وهذا أكبر دليل على أن المليشيات القبلية أكثر خراباً من المليشيات الموجودة في طرابلس التي حدث منها – هي الأخرى – كثيرا من الخروقات الأمنية الناتجة من طبيعة تكوين هذه المليشيات التي في الغالب لا يعرف عناصرها معنى حقوق الإنسان، وتحتاج إلى إعادة ترتيب وتدريب حتى تكون أكثر انضباطاً، وبالتالي يمكن أن يطلق عليها بأنها أجهزة أمنية مهنية، ولاؤها للحكومة بشكل مطلق. وهذا لا يمكن تحقيقه بمحاربتها من خارج العاصمة، وإنما بتواجد السياسيين المضحين الشجعان بينهم والعمل على تفكيك أجسامهم وإعادة تركيبها بطرق علمية ومهنية، وليس بالقضاء عليها مثلما يطالب أحد الهاربين من العاصمة وهو في رأس هرم السلطة، ويتمتع بصلاحيات ملكية مثلما ينسب لنفسه، ولكن دون تحمل أي مسؤولية يتطلبها مفهوم الحكم وجمع الصلاحيات، ومنها القدرة على التخلص من المليشيات بوسائل حضارية….

لك الله يا ليبيا

مسؤول أمريكي سابق: الوجود الروسي في ليبيا تضاعف مؤخرا

ماذا بعد قرار الرئاسي الليبي خفض مرتبات كبار موظفي الدولة؟