in

الجنوب…إعادة استثمار البؤس

طيلة أعوام لم يُذكر اسم الجنوب إلا وذكرت معه قصة معاناة أليمة، وما إن يتأقلم معها الناس حتى تدخل عليها أخرى أشد وطأة وألما، أزمات أمنية ومعيشية واجتماعية وحكومية وسياسية.

ولعل السؤال الجاهز للطرح دائما كل ما ذكرت معاناة الجنوب، أين الحكومات؟ وأين مسؤولو الجنوب؟ أين نخب الجنوب؟ أين مؤسسات المجتمع المدني؟ أين الأعيان؟ أين الجهات الأمنية في الجنوب؟……إلخ.

بينما يبقى الجواب الكافي متعدد الجوانب متعثر الفهم وعديم الجدوى إذ إنه صعب التنفيذ إذا تعلق الأمر بإيجاد الحلول؛ بسبب إعادة استثمار البؤس مرتين من قبل مروجي الأزمات وتجار الولاءات.

أين ممثلو الجنوب؟

عند ما يتعلق الأمر بمن تقع عليه المسؤوليات فإنهم ممثلو الجنوب لا سيما أعضاء المجلس الرئاسي ونواب البرلمان ومجلس الدولة والوزراء وكذلك عمداء البلديات وغيرهم ممن يحمل صفة رسمية في الدولة.

ولعله جواب عن هذا السؤال الأزلي: فقبل أسبوعين قال رئيس الوزراء الحكومة المؤقتة بطبرق “عبد الله الثني” إن نواب الجنوب تلاعبوا بمبلغ كان قد رصده للجنوب لتحسين بعض الخدمات المتعلقة بصيانة الآبار الجافة وأشياء خدمية وضرورية أخرى، ويقدر بـ 30 مليون دينار، وقد تولى نواب الجنوب مسؤولية توزيعه لكن لم يرَ أهل الجنوب أي خدمات تذكر.

وقد سببت تصريحات الثني تلك غضبا غير مسبوق من أهالي الجنوب، مطالبين نوابهم بتوضيح الأمر، وكيف حصل التلاعب أو بالأحرى اختلاس هذه الاموال، فيما التزم السادة النواب الصمت المطبق إزاء الموضوع، ولم يصدر أي تصريح منهم حتى اللحظة.

أين ممثلو الجنوب؟

لقد اعتاد أغلب نواب وممثلي الجنوب الصمت، وقد عُرفوا بذلك من قديم الزمان حتى إن بعضهم ترك الجنوب من أول يوم تولي فيه المنصب ولم يرَ منه أهل الجنوب أي شيء يذكر حتى مجرد تصريح إعلامي مدته دقيقة واحدة.

كما أن بعض الوزراء من الجنوب مجرد صورة فقط ليس لديهم أي دور بل إن وزاراتهم تدار من قبل مديري مكاتب في أحسن الأحوال، كل ذلك بدافع التنصل من المسؤولية، والتخفي عن وجوه مواطني الجنوب ومشاكلهم المؤرقة، ومطالبهم المتشابهة وإن كانت لا تحل ولا يجبر على حلها بالقوة.

وقد وصل الأمر بأحد نواب الجنوب عند ما سئل عن الأموال التي اختفت عندهم بينما كانت في طريقها إلى الجنوب بقوله، إن أهل الجنوب “ضعاف النفوس” لأنهم يسألون عن هذه الأموال التي تحدث عنها الثني!

لكن من باب الإنصاف يجب أن نشير إلى أن نواب الجنوب ليسوا وحدهم من تورط في ملفات فساد في مسابقة اختلاس المال العام في ليبيا، كيف لا وقد شاهدنا أصنافا لا تعد ولا تحصى من أنواع أكل المال العام بالباطل، في بلدٍ حتى تسلل مياه الصرف الصحي ابتُكر مبررا ناجحا لاختلاس الأموال داخل خزائن الفولاذ المخبأة جيدا خلف أسوار بيت مال الليبيين في بنغازي.

بالتأكيد ذلك لا يبرر بأي حال من الأحوال التلاعب بقوت الكادحين وسرقة آمالهم ومستقبل أولادهم ، ثم إن المشكلة الكبرى أن المسؤول في ليببا لا يحاسب ولا يعزل ولا يستشار بل يتحول من متحمل للأمانة إلى متسلط لا يقبل ذكر اسمه إلا بالشكر الجزيل والبقاء الطويل في المنصب الذي أصبح هبة من الله لا يغادرها إلا إلى القبر.

أما المشاكل الأمنية والإنسانية في الجنوب، فهي قصة آلام أخرى لا تنتهي؛ بسبب مروجي حروب الولاءات ولغة فوهات المدافع، وقصص الاغتيالات والسطو المسلح والجريمة المنظمة التي تعلو على كل اللغات الأخرى على حساب النسيج الاجتماعي والحوار المجتمعي، ومرزق مثال حي على جرح غائر وشديد الألم تسببت به أطماع السياسة وعنجهية الجنرال وسوء التقديرات، وشدة مركزية السلطات في الشمال، وانخفاض مستوى صوت الأعيان ومستوى تأثيرهم، بالإضافة إلى سلبية النخب الثقافية بسبب الاستقطاب السياسي الحاد وولاءات المال الفاسد.

أما البلديات فأغلبها موجود بالاسم فقط، وقد خضعت هي الأخرى للاستقطاب حيث قامت حكومة الثني بتغيير عمداء منتخبين بآخرين عسكريين، وآخرون أبقاهم بعد إنهاء مدة ولايتهم؛ بسبب أنهم يوالونه ويعادون حكومة الوفاق.

فيما يبقى انعدام أي خدمات تُذكر القاسم المشترك الوحيد بين تلك البلديات.

هذه الصورة القاتمة ليست جزءا من حملة البكاء التي كان يطلقها بعض أهالي الجنوب كل ما وقعت بينهم نازلة ثم يسكتون بعدها بقدر ما هي سرد لوقائع حقيقية تشمل جميعها واقع الجنوب منذ سنوات، أضعها لمن يهمه أمر إقليم كامل بكل ما يمثله من بُعدٍ حساس للأمن القومي ومصدر رئيسي لقوت الليبين، تُرك ساحة للعنف ويقاسي ساكنوه البؤس الشديد والنسيان المريب وغياب وازع السلطان.

طالب ليبي يتفوق في جامعة بريطانية ويفوز بأفضل رسالة ماجستير

مدرسة سرت المركزية تفتح أبوابها من جديد