in

المبادئ ومعضلة الانتحار السياسي

شغل المبادئ الحيّز الأوسع من الخطاب السياسي خاصة ذلك الموجّه إلى الجمهور، وتمثل المبادئ عامل الجذب الأبرز خاصة في حالات التأزم والانسداد السياسي، وعلى أساس المبادئ أيضاً تتم عمليات التصنيف السياسي ويتولّد خطاب العنف والإقصاء ورفض الآخر مما يزيد في حدّة الاستقطاب ويكرّس حالة التشظي والانقسام ويعزز غياب الثقة عن أي إطار للعملية السياسية.

كثيرون لا يرون في المبادئ التي يتبناها أي تيار سياسي سوى أغلفة براقة تُلفّ بها المطامح إلى السلطة والمطامع في النفوذ والحظوة، وهذا الرأي يؤكّد أن الثابت الوحيد في السياسة هو المصلحة فقط، وأنها البوصلة التي توجّه أي تيار سياسي إلى منافذ الاستمرار والبقاء في الميدان السياسي، وأعتقد أن هذا الرأي –على ما فيه من واقعية- يحتاج إلى شيء من النقاش والمعالجة، فالسياسة في حقيقة أمرها ليست إلا مراعاة المصلحة والسعي إلى تحصيلها، إلا أن الذي ينبغي توضيحه هنا كُنهُ هذه المصلحة وماهيتها، وهي بلا شك المصلحة الوطنية القائمة على احترام السيادة والخضوع للقانون وصوْن الحقوق والحريات، وهذه المصلحة بهذا المفهوم هي ما ينبغي أن تؤطّر ضمنها وفي نطاقها المصالح الشخصية والحزبية التي لا يمكن إلغاؤها أو تجاهلها لأنها الدافع الأبرز لولوج السياسة وخوض غمارها، وهي مقبولة ويمكن تفهمها مادامت في إطار المصلحة الوطنية المُشار إليها آنفاً.

وإذا كانت السياسة مصلحة عليا تؤطّر مصالح أخرى للفرد والتيارات في إطارها فأين موقع المبادئ في هذا الإطار وما قيمتها؟

أي تيار أو توجّه سياسيٍّ ينطلق في عمله السياسي من قضية أو قضايا يتبنّاها، ويحدد لنفسه مبادئ وثوابت لنصرتها أو معالجتها، وتمثل هذه المبادئ والثوابت المرجعية الفكرية التي يلتفّ حولها هذا التيار، وهي كذلك عنصر الوحدة والانسجام داخله، فهي لا تتعدى الإطار الفكري في بنية أي تيار سياسي، لأن المبادئ والثوابت متى ما تجاوزت هذا الإطار لتشمل الأدوات والآليات فإنها ستكون بداية لفقد الديناميكية في الفاعلية السياسية لهذا التيار، وستؤدي به تدريجيا إلى الضمور والانكماش الذي سينتهي غالبا بالفناء والتلاشي من مركز التأثير السياسي، والتراجع إلى الهامش والخروج كلياً من العملية السياسية.

ولو أردنا إخراج هذا الكلام من إطاره التنظيري وحاولنا إسقاطه على الواقع السياسي يمكن أن نجده في القوى الثورية التي صعدت سياسياً بعد الربيع العربي، حيث أن كثيراً من هذه التيارات تبنّت في خطابها آليات وأدوات للممارسة السياسية جعلتها محصورة في نطاق ضيق إما أن تتقوقع فيه أو تتجاوزه إلى رحاب المرونة السياسية المفتوحة، وهي في هذا الخروج بلا شك تفقد جزءاً لا بأس به من قاعدتها الشعبية، غير أنها تنجو من حالة الانتحار السياسي البطيئة التي كادت أن تنزلق فيها.

البيئة السياسية بطبيعتها متقلبة وهلامية وملامحها سريعة التغير بسبب حالة التدافع والتنافس الحاصلة فيها، خاصة إذا كانت مؤطّرةً بإطار دستوريٍّ هشّ ومخترقةً من قوى خارجية لها تأثير واضح فيها، وهذا الوصف يكاد ينطبق تماماً على الحالة الليبية مما يوجب إبقاء مبادئ وثوابت أي تيار سياسي في حدّها الأدنى ضمن إطارها الفكري إذا أرادت المحافظة على فاعليتها السياسية، والإبقاء على حالة التوازن في المشهد السياسي الذي يتشكل بالفاعلين فيه لا بالمراقبين له.

هذا الكلام يأتي في سياق بروز ملامح تسوية جديدة تُقبِل عليها ليبيا في الملتقى الجامع، هذه الملامح التي مع بروزها بدأت تتعالى أصوات الخطاب السياسي الجامد ودعوات التمسك بالمواقف التي تمّ تجاوزها منذ أمد بعيد، وكأن أصحاب هذا الخطاب لم يعوا بعد أنهم انتحروا سياسياً بفقدهم لفاعليتهم السياسية وأنهم صاروا أشباحاً تتقافز في هامش مشهد السياسة دون تأثير.

الممارسة السياسية الواعية وإدراك الواقع والمعرفة الجيدة بأدواته وآلياته المتاحة هو ما يجعل من المبادئ والثوابت واقعاً يتجسد بالمثابرة والتأنّي والتدرج والبحث عن الوسائل التي لن يُعدمها السياسي الحصيف.

المصدر: موقع ليبيا الخبر

إنتل تبدأ العام المقبل الإنتاج الضخم لرقاقة مودم هواتف iPhone 5G

المشري يبحث في موسكو سبل تسوية الأزمة الليبية