in

نواهض السادس … تصفية حسابات

لتنهضوا لا بد أن تتخلصوا من عقابيل وتفككوا أوهاق منعطفات التاريخ، وأن تتخففوا من اشتراطاته ومعاكسة اتجاهاته التى أوصلتنا إلى محطة الحاضر نرسف في أغلال التخلف والعبودية للعسكر والتبعية والعجز والانحطاط المعنوي، والقصور الاجتماعي والثقافي والسياسي.

بمعنى حاكِموا التاريخ وقوموا بتصفية كل حسابكم معه بكل شجاعة وموضوعية، فهو المسؤول الأول عن صناعة الطغيان، وهو رحم الاستبداد وحبله السري بل مهده ومربع صباه ومضمار عنفوانه، وشاهد تنصيبه ملكا علينا ولم يؤتَ بسطة في علم ولا جسم كطالوت.

الحالة التى نعيشها اليوم هي الابنة غير الشرعية لليالى الاستبداد والقهر ومصادرة كرامة الإنسان وإرغامه على العيش في حياة السخرة من أجل الخلفاء والأمراء والبشوات والأغوات والملوك من بعدهم، قبل مغامرات وقفز العسكر والرؤساء على قصورهم وفك زمام الأمور والصولجانات من أيديهم، وقطع رقاب البعض ونفي البعض وهروب البعض الآخر، لنجد أنفسنا وجها لوجه أمام قُطّاع طرق متغلّبين يسمون أنفسهم زورا خلفاء وأمراء المؤمنين، وما هم إلا زعماء لصوص عينوهم شرطة وصنعوا منهم جيوشا صادروا بها الحرية من الشارع بل من كل زاوية من زوايا جغرافيتنا السياسية بل الطبيعية والسكانية في نفس الوقت وعلى نفس القدر.

هناك محطات هامة عندما يفتح ملف الهيئة الاجتماعية الليبية الحالية تبرز لنا معالمها واضحة جلية، بعضها محلي وبعضها خارجي وافد، كان لها الأثر المباشر في طبيعة التشكل وأطواره وتجلياته، لا يمكن تجاهل شيء منها، ليس هذا دعوة للتمسك ولا للتخلي عن أي مؤثر كان، بل عزمٌ جادٌّ على مناقشة وجودية تتسم بالموضوعية والجدية والصرامة، كان ينبغي أن نقوم بذلك عشية الاستقلال عن سلطة الانتداب البريطاني في الشمال، وسلطة الانتداب الفرنسي في الجنوب، ولكننا انغمسنا في السياسة دون أن نولي ذلك أي قدر من الاهتمام، والنتيجة كانت استمرار متلازمة التخلف والانحطاط وتكريس حالة مصادرة الحرية بل والقفز في ذلك عاليا حتى بلغ مدى الانحطاط أنْ حكَمنا عسكريٌّ لعقود أربعة استنزف كل مواردنا المعنوية والمادية، فما أن تخلصنا منه حتى اكتشفنا ضخامة الكارثة وعمق الهوة التي ألقى بنا فيها التاريخ فنحن نحاول اليوم الخروج من أخدود نار الاستبداد والوقوف على أرض صلبة للحرية وسياط العسكر لا تزال تلهب ظهورنا؛ لأننا لا نزال نخضع للتاريخ وأنموذجه البئيس، ولا نتجاوزه ونصحح أخطاءه ونمضي مع الناس كبشر وليس كعبيد تطأ أنوفهم كعاب أحذية العسكر وهم يسبحون بحمدهم؛ لأنهم فقدوا إنسانيتهم وخسروا كرامتهم ومكانتهم المعنوية منذ قرون، وتوقف نبض الحرية في صدورهم فلا يخالج مشاعرهم شيء من معانيها ولا تطلعاتها، ولا يغريهم سبب ولا شيء من أشياء ولا أسباب حياة الأحرار، بل ينظرون إليها شزرا كأنما ينظرون إلى مجذوم.

الحذر الحذر

ليس صحيحًا أن نترك المجال للتاريخ ليحدد لنا المستقبل كما يقال، كلا فليس معطيات اليوم من صنع ذاك التاريخ كي يقدر على الإجابة على كل مثارات تساؤلاتها ولا إصلاح مثارات غلطها إن حدث خلل ما.

والدليل أنه لا يوجد في النموذج التاريخي إجابات صحيحة وافية عن مثارات غلط السياسة والحكم، حتى الدفاعات التاريخية عن العقائد ما عادت قادرة عن الترافع للدفاع عنها اليوم، وقد سحب العديد من ملفاتها وأحيلت على ميكانيكا الكونتيم ( Quntum Mechanics ) بدل جدل علم الكلام ومباحث الطبيعيات في علم الفلسفة.

محاكمة مالك

أكيد البعض لن يستسيغ أن نستدعي إمام دار الهجرة مالك بن أنس ـ رضوان الله عليه ـ لنحاسبه على مقولة ” لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها” فتلقفت مقالته تلك العديد من المدارس الفكرية الأصولية وأشاعتها كثقافة فكرية حتى تحولت إلى متلازمة ذهنية تحول دون القدرة على المعاصرة والمواكبة، بل بمجرد شعورها بأي قدر من ذلك تصرخ جميع مجسات إنذارها تارة بالشجب وأخرى بالتفسيق والتخوين والتبديع، وثالثة بسيف المعزّ ونطعه، ليس صحيح أن صلاحنا اليوم ممكن بما صلح عليه الأسلاف في الماضي كما يروج في كتب العقائد وأصول الديانة وأصول الفقه وفروعه، وإلا فانظروا إلى حال المشتغلين بالفقه التاريخي، وكيف يعالجون بسذاجة وتعصب معطيات سوق اليوم بعقلية فقهاء سوق مكة الذي كانت تأتيه رحلتان واحدة في الشتاء والأخرى في الصيف، بعقلية فقهاء سوق مكة التى ورثوها من كتب الفقه التاريخي يريدون أن يعالجوا معطيات سوق طرابلس الذي تحمل إليه سفينة أو طائرة واحدة ما حملته القوافل طوال رحلات الشتاء والصيف إلى مكة في عشرة أعوام ونيف؛ لذلك تسمع لهم عجبًا في تحفظهم على مسألة الفيزا كارت والتحويلات الإلكترونية، وقد طويت المسافات حتى صارت الـ ( WWW.COM) تمثل المجالس وخيارها الذي حير الناس في قول مالك ومخالفته للفقهاء في خيار المجالس وانعقاد الصفقات، يقيسون ما ينشأ اليوم من صفقات كونية لحظية وقيامها على اعتمادات المؤسسات المالية، يقيسون ذلك على صفقات كانت تعقد بين عطار يحمل بضاعته متجولا على ظهر أتان وسيدة من قريش أو جارية في شعبة من شعب وديان مكة، ليكون ذلك معيارا على سوقنا اليوم وتغير طبيعته ووتيرة صفقاته وصيغتها.

لن نكون قادرين على مجرد العيش اليوم إن أخذنا بمقولة مالك تلك وعشنا في جلباب التاريخ، سنكون مجرد دراما تاريخية وليس مجتمعا عضويا يعيش لحظات حاسمة من ألفية جديدة.

الاستبداد صنو الوثنية

وعلى الرغم من ذلك لا يثير اشمئزاز فقه التاريخ بنفس القدر الذى تثيرها فيه الوثنية، وإذا سألنا لماذا؟ قالوا لنا إن الوثنية منازعة الإله في ألوهيته، عجبًا !، وما هو الاستبداد أليس منازعة للرب في ربوبيته؟ لماذا هذا حرام فقها وهذا حلال؟ أليس تاريخيا صارت ولاية المتغلب مستساغة؟ بل صارت ولاية المتغلب أولى من ولاية المنتخب.

كل ذلك تاريخ يجب محاكمته بشدة وحزم؛ كي لا نكون مجرد إعادة طبع لنسخة الانحطاط المجتمعي والسياسي والحضاري، وإن أولوياتنا اليوم لا علاقة لها بأولويات من سبقونا، ونكون نرتكب خطأ فاحشا عندما نعلم الأولاد في الجامعات مباحث كتب فقه التاريخ على أساس أنها فقه في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ينبغى إيقاف هذا الهدر والتشويه في ذهنية الجيل اليوم، حتى أني قلت ذات مرة أمام من يدّعي أنه طالب علم “إن الإسلام حرم استرقاق الناس” فنظر إلي نظر شزر وكاد يسطو بي لولا أنه كان يعرف أني لا أوفر عليه ما يستحقه إن هو تجرأ على شيء من ذلك، لماذا؟ لأنه درس باب أحكام الرق وملك اليمين وأحكام أم الولد في كتب فقه التاريخ.

نشأة السلطة والمشكل التاريخي سيكون الباب الأوسع والأهم لنلج من خلاله إلى ساحات محاكمة التاريخ منذ حادثة سقيفة بني ساعدة وما حصل فيها من بيعة فلتة إلى يومنا هذا لنقف على طبيعة الأخطاء التاريخية التي هيمنت على نمط حياتنا العامة حتى حكمنا الأولاد دون سن الرشد، والعسكر الذين لا يعرفون من السياسية نقيرا ولا قطميرا، ولكن في نواهض السابع بعون الله.

الكاتب/ صلاح الشلوي

البداية من الجنوب !!

ضبط 48 متسولا داخل بلدية طرابلس المركز، بينهم ليبيون