in

لبلاد وين ماشية؟

السؤال الشائع الذي يتردد في كل مناسبة اجتماعية ولا يغيب عن مخيلة أحد من أبناء ليبيا: “وين ماشية لبلاد؟”

بحثاً عن حل أو بارقة أمل علّها تلوح في الأفق. ومن العجيب أن هذا السؤال يوجه أيضاً من قبل مسؤولين، مما يؤكد أنه أصبح سؤالاً مُلحاً يطرحه الجميع! البارحة صديق عزيز وجه لي السؤال ذاته.

فقلت: بعد سقوط النموذج الخليجي من مخيلة الإنسان الليبي، أصبحت الطريق ممهدة لإقناع الليبيين أن أمام ليبيا فرصة تاريخية لا تتكرر؛ ليست متوفرة في أغلب البلدان العربية، وذلك بأن تقيم دولة مدنية حديثة؛ لا استبداد عسكري فيها ولا تسلط ثيوقراطي؛ كيف؟ قال صاحبي.

كي دبي حرب اليمن وحصار قطر وحادثة اغتيال جمال خاشقجي وانهيار نموذج التدين السعودي، الذي حاولوا فرضه على العالم العربي والإسلامي، والحرب الإلكترونية بين النخبة الخليجية، الذي وصل مستوى من الانحطاط والدنو لم تبلغه ليبيا في أي مرحلة من مراحلها ولربما لم تصلها أي حالة في العالم العربي على الإطلاق؛ من التعرض للحرمات والخوض في الأعراض والأنساب، كل ذلك ساهم في كشف الستار والزيف عن النموذج الذي طالما تمنى الليبي أن يُحاكيه.

تبدو بعض مفردات المشهد الخليجي كأنها إعادة لشريط الأحداث التي مرت بها ليبيا أثناء حكم الراحل معمر القذافي؛ حروب على دول الجوار ومغامرات غير محسوبة العواقب ومؤامرات وتغيير أنظمة ومطاردة معارضين وقتلهم وكتم أنفاس النخب العلمية والفكرية والسياسيين والحقوقيين وأصحاب الرأي، وسد أبواب التعبير، ولا صوت فوق صوت اللقاق والنفاق؛ بطانة سوء تأمر بالشر وتحضُّ عليه، وبذلك انهار النموذج الخليجي في الذهنية الليبية، فلم يعد يرغب في محاكاته، لما شاهده من تهاوي سريع بعد أن كشفت هذه المفردات سوءته.

ضريبة الاستبداد قُلت لصاحبي هذه المفردات كانت واقعا معاشا في ليبيا، ودفع الليبيون جميعهم ضريبتها، ومازالوا يدفعونها.

دفعوا ضريبة أربع عقود من المغامرات والمؤامرات والقتل والاغتيالات ومن الجهل والمرض والفقر والضنك والذل والهوان والفساد والفوضى المنظمة، ودفعوا خلال ثمانية شداد إرثه ومخلفاته والعمل على كسر ومنع عودته.

الضريبة كانت باهضة ودفعها كل الليبيين بدون استثناء، من كان مع ومن كان ضد، ومازال يدفعها كلاهما، لكنها دفعت ولا يجب بحال أن تدفع مرة أخرى.

نعم مازالت بعض الدول الإقليمية تخيّرنا عبثاً بين فرض مستبد جديد أو فوضى خلاقة ليس لها نهاية.

لا ولا ولا.، لا ديسمبر ولا سبتمبر ولا فبراير، كلها أيام الله؛ فلا نقدس في السياسة أشهراً ولا ما حصل فيها، ذلك إذا أردنا حلاً حقيقياً لمشاكلنا.

يجب علينا أن نعود للبدايات الأولى ونغوص بعيداً إلى بداية التأسيس، إلى يوم إعلان استقلالنا، وننظر في الدولة كيف بُنيت ونبحث عن علاج لما تراكم على بنائها من مشاكل بعيداً عن الأشهر والأنظمة.

أمامنا فرصة تاريخية، لو تعاملنا مع اللحظة بعقلانية وحكمة وقدمنا مصالح الوطن وأمنه واستقراره على مصالحنا الشخصية الضيقة، واتفقنا أن نتعالى فوق الصراعات والجراح ونعلي مصلحة الوطن، نتفاهم على شكل الدولة التي نحلم بأن تكون ليبيا على غرارها؛ دولة مدنية حديثة، دولة تنعم بخيراتها وتزدهر من خلال برامج تنموية كبيرة، تصبح فيها ليبيا مركزاً تجارياً وصناعياً وسياحياً على مستوى القارة الأفريقية والعالم بأسره.

دولة يكون الحاكم فيها خادماً عند الشعب، ويكون الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية حامية لحدود هذه الدولة، وتؤمن حياة المواطنيين وممتلكاتهم الخاصة والعامة، ولا تتدخل في السياسة، ولا تكون أداة في يد حاكم يبطش بها.

دولة مدنية تحمي الحريات ويعيش الناس فيها تحت ظل المواطنة أحراراً من خلال نظام سياسي تعددي يصون حرية التعبير ويحمي التعددية ويكفل الحقوق. العقد الاجتماعي كنت من المؤيدين لمشروع الدستور الذي صاغته “الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور”، وتواصلت مع بعض أعضائها، وطلبت منهم تقديم مبادرة تعلن الاستعداد لإجراء أي تعديل على مشروع الدستور يتفق عليه الليبييون في مؤتمرهم الجامع وقدمت لهم مبادرة مكتوبة، وذلك على شرط عودة المشروع إليهم.

لا بد من توسيع المشاركة في صياغة العقد الاجتماعي ليكون بالفعل لكل الليبيين.

وهذا يتطلب أن يشارك فيه الجميع على مبدأ المواطنة الجامعة، وليس على قاعدة الأشهر ولا على قاعدة المنتصر والمنهزم والقوي والضعيف.

وينبغي أن تشمل هذه المشاركة كل الليبيين؛ من دون قيد ولا وصاية، لا على شكل هذه المشاركة ولا على المواضيع التي يجب أن تطرح فيها؛ حتى نتمكن من صياغة هذا المشروع الوطني الجامع.

لا بد أن نقرر كيف سنعيش معاً فوق هذه الأرض؛ عرباً وأمازيغاً وطوارقاً ويهوداً وتبوا، طالما أننا جميعاً ليبيون.

لابد أن نقرر كيف سنعيش معاً شرقاً وغرباً ووسطاً وجنوباً ولا نستبعد أي نظام للحكم المحلي بما في ذلك النظام الفدرالي، كي نحافظ على وحدة البلاد. لابد أن نتفق كيف يتم إدارة الثروات والموارد وتوزيعها بشكل يضمن للجميع حقوقه، وكيف نتصالح مع الماضي والحاضر ونخطط أكثر للمستقبل، وكيف نتجاوزهما لنبني المستقبل.

الانتخابات لا سبيل لكل ذلك إلا من خلال انتخابات حرة ونزيهة؛ يشارك فيها جميع أبناء الشعب الليبي، بعد تهيئة الأرضية اللازمة لإجرائها.

لابد من تحقيق المصالحة وحصر السلاح وجمعه وتحييد المليشيات وإعادة تأهيل أعضائها ودمجهم في المؤسسات الأمنية والعسكرية؛ أي مؤسستي الجيش والشرطة، ولا بد من اتخاذ إجراءات لتحييد المال السياسي، والحد من تدخل الدول الإقليمية في الشأن المحلي والتأثير على نتائج الانتخابات.

بعدها فقط يمكن أن تجرى انتخابات حرة ونزيهة يشترك فيها الجميع؛ ترشحاً واقتراعاً.

أخيراً… طي صفحات الماضي طي صفحات الماضي، يحتاج إلى وطنيين عُقلاء لديهم القدرة النفسية والعقلية على تجاوز ذلك الماضي بمره وحلوه، وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن يتنازل صاحب الحق عن حقه، ولكن كما قال الأجداد في “ميثاق الحرابي” عام 1946م في مدينة درنة أن ذلك لا يعني أن “ندعو أصحاب الحقوق إلى التنازل عن حقوقهم، ولكننا نطالبهم بإيقاف المطالبة بها مؤقتاً ليتفرغوا للمطالبة بحق الأمة العام الذي له من الأهمية الكبرى ما يجعله أحقَّ بالتقديم على حقوق الأفراد والعائلات والقبائل”.

وذلك من أجل ” توحيد المجهودات وتوجيهها متظافرة مُتحدة إلى قضية البلاد السياسية وحدها، حتى يتقرر مصير البلاد وتؤسس فيها حكومة وطنية وتنظم أمورها وتستقر أحوالها”، حينها يمكن لصاحب الحق أن يطالب بحقه بالوسائل المشروعة وبواسطة حكومة البلاد الشرعية.

الكاتب: عبدالرزاق العرادي

سالفيني: انخفاض أعداد المهاجرين القادمين من ليبيا بنسبة 93%

عبدالجليل يطالب بقبول عودة المهجرين لأعمالهم