in

التعدّد المباح

ليس من المستغرب ما يحدث هذه الفترة داخل حزب العدالة والبناء مع قرب انعقاد مؤتمره العام الثاني، فبالعموم يعتبر التنافس داخل الأحزاب ظاهرة صحية تدل على حسن إدارة الاختلاف بين الرؤى المتباينة، وهو ما يسير بها إلى اتخاذ مواقف أكثر مقاربةً وتعاطياً مع الواقع، وبشكل خاصيعبّر الحراك داخل العدالة والبناء عن حالة نضجٍ حقيقية  يعيشها الحزب في بيئة سياسية محتقنة ومنسدّة، ويمثل انعكاسًا لتجربة سياسية جديرة بالدراسة والاهتمام رغم الأخطاء التي صاحبتها؛ لأنها بطبيعة الحال تجربة بشرية تُقاس بمقياس الخطأ والصواب.

هذا الصراع لم يكن جديداً، وأسباب كثيرة كانت وراءه، منها الموقف من الاتفاق السياسي، وضبابية الرؤية وارتباكها بخطاب دار الإفتاء، والحرب في بنغازي، وغيرها، إلا أن قرب انعقاد المؤتمر العام الثاني للحزب ورغبة بعض الأطراف داخله في الوصول إلى القيادة هو ما فجر هذا الصراع.

التجربة الحزبية في ليبيا لم ترتق إلى المستوى المطلوب؛ بسبب المناخ السياسي العام، والحرب التي شنتها دول إقليمية على العملية السياسية برمتها، واتخذت من شيطنة الحزبية حجة وذريعةً لإفساد المناخ الديمقراطي الذي خرج من رحم ثورة فبراير، واستندت على أهم ما ترتكز عليه الأحزاب والتكتلات السياسية: الفكر والتنظيم، فركزت أدواتها الإعلامية على ضرب مفاهيم مثل الأيديولجيا والانتماء، وأصبح كل من يحمل فكرا أو “أيديولوجيا” في قائمة الإجرام، واستدعوا مقولات من قبيل: “من تحزب خان” للتشويش على عقول الناس، والحقيقة المرّة تقول إنهم حققوا نجاحا كبيرا، وهذا ما جعل العملية السياسية  في حالة جمود وشلل بسبب كل هذه الهجمات، أو على الأقل تسير متعثرة مرتبكة كمن يمشي في حقل ألغام لا يدري ما تدوس رجله إذا وطئ الأرض.

الخطاب الديني أيضاً لعب دوراً بارزاً في مناهضة الأحزاب، ونظر إليها نظرة تقليدية ربطت بين تعدد الأحزاب والفتن، واستدل بتصورات خاطئة للأسباب التي أدت إلى حروب دموية سطرت صفحات مؤلمة في تاريخ المسلمين.

تأثَّر الوعي المجتمعي في ليبيا بهذا المناخ السياسي السلبي، حتى داخل الحزب، وعند تعاطيه مع مثل هذا الحراك سقط في فخ الثنائيات، فانحصر تعاطيه بين السلب والإيجاب، الذي سيكون طريقا إما إلى التخوين والتحريض في حالة السلب، أو القدسية والمبالغة في حالة الإيجاب، ولم يتعامل معه على قاعدة أنه وضع طبيعي يعبر عن المجتمع الحاضن له، وتفاعل الأعضاء المنتسبين إليه.

إن ما يحدث الآن من صراع داخل حزب العدالة والبناء يعتبر أمرا طبيعيا، وأميل إلى أن هذا الصراع سيفرز نتائج إيجابية في كل الظروف.

هذه الثمار في حدّها الأدنى ستتجسد في التداول السلمي على السلطة وترسيخ مبادئ الديمقراطية داخل الحزب، وفي حدّها الأعلى ستؤدي إلى تكوّن حزب جديد يثري الحياة المدنية والسياسية في ليبيا الفقيرة بالكيانات والمؤسسات السياسية.

ربما يستغرب القارئ من دعوتي إلى مزيد من الأحزاب، خاصة بعد اهتزاز ثقة الناس فيها نتيجة الأسباب المذكورة، لكن في تقديري أن المزيد من الأحزاب يقود إلى مزيد من إرساء دعائم الديمقراطية والحياة المدنية، ويقوّض كل القوى الساعية إلى التلسط والعودة إلى أنظمة الشمولية والاستبداد.

إن تعدد الأحزاب في ليبيا سيسهم في زيادة وعي الناس بضرورة تأطير العمل السياسي، ويجعلها قادرة على التعبير عن إرادتها وإيصال صوتها لتصبح جزءا رئيسيا ومركزياً في منظومة الدولة الديمقراطية.

إن النظر إلى تعدد الأحزاب والكيانات السياسية  على أنه فتح لباب الفتنة المجتمعية وتكريس لحالة الفرقة والنزاع السياسي – إن هذا النظر قاصر وسطحي، فتعدد الأحزاب والكيانات السياسية يعكس حالة الثراء المجتمعي بالرؤى والأفكار ويرسخ مبدأ التعايش مع الاختلاف ويؤسس لثقافة التعايش مع الآخر، وبلا شكّ أن حالة التعدد هذه وإن كانت في بداياته مرتبكة ومتصادمة إلا أنها بمرور الوقت ستنتهي إلى آلياتها القادرة على إدارة خلافها واستثمار اختلافها بما يعود على مجتمعها ارتقاءً وتنوعاً وحريةً.

المبروك الهريش/ كاتب ليبي

المصدر :موقع ليبيا الخبر

مصادر تنفي انسحاب “سوناطراك” الجزائرية من ليبيا

جلطة الرئة كيف تحدث وما هي أسبابها؟