in

الإفتاء ليس سبيلاً للإصلاح السياسي

تعتبر الممارسة السياسية أكثر الممارسات تغيراً وتقلباً لارتباطها بالمصلحة بمفهومها العام، وكذلك لكونها في مجال غير ثابت ومتحول مرتبط بشبكة من المنظومات والعلاقات والمؤثرات المحلية والإقليمية والدولية، ولاشكّ أن محاولة تأطير الممارسة السياسية بإطار من القيم والمبادئ العامة التي يتفق عليها الفاعلون في العمل السياسي من أبرز أوجه الإصلاح السياسي الذي يؤمّن للعملية السياسية حالةً من الاستقرار والانتظام تجنبها الانزلاق إلى الفوضى والصراع العنيف.

غير أن هذا التأطير لا يمكن أن يأتي إلا من خلال الممارسة السياسية نفسها، بحيث يتم ترسيخه من خلال الأداء السياسي الملتزم بهذا الإطار، ولا يمكن بحال أن يتم من خارج الممارسة السياسية الفعلية، لذلك فإن محاولة معالجة الفساد السياسي وإصلاح بيئته من على كراسي الإفتاء لا يتأتّى لأمور كثيرة من أهمّها: أن مؤسسة الإفتاء في مفهوم الدولة هي أحد أجهزتها التي تشكّل جزءاً من نظامها، والتي لها مهامها المحدّد لها قانوناً، ومتى تجاوزت هذه المؤسسة دورها داخل هذه المنظومة أربكت عمل أجهزة الدولة الأخرى وأدّت إلى اختلال نظامها (وقد كان لمؤسسة الإفتاء مواقف كثيرة تدخلت فيها في عمل أجهزة الدولة الأخرى كتعقيبها على عمل النائب العام بعد المؤتمر الصحفي المتعلق بالتحقيقيات مع عناصر داعش، وكبيانها المؤيد لعاصفة الحزم وهي شأن خارجي، ثم هي اليوم من خلال منابرها الإعلامية تشنع على الدولتين الأبرز فيه)، لذلك فإنّ اقتصارها على دورها وفق ما يخولها القانون الحاكم لها من أهمّ سبل الإصلاح العام، ولذلك فإن تجاهل مؤسسة الإفتاء لطبيعة النظام السياسي القائم على التعددية والتنافس، واختلاف اجتهادات الفاعلين فيه، وظنِّ القائمين عليها أنّ خطابها يجب أن يكون مقياساً ومعياراً للاجتهاد السياسي لا يجوز تعديه أوتجاوزه جعل من حضورها في المشهد السياسي عامل إرباك وتشويش يؤدي إلى اختلال عملية التنافس، كما أفقدها أيضاً دورها المهم والرئيس كمؤسسة ضابطة للخطاب الديني تحميه من أكدار التطرف وشوائب الغلو،ويرجع إليها الجميع ويرتضيها حكماً فيما يخصّ الشريعة وما يتعلق بها، بل أصبحت بمسلكها الحالي طرفاً سياسياً له خطابه وقادته ومنابره الإعلامية، وتراجع دورها المجتمعي في الإصلاح وخسرت مكانتها في نفوس كثير من الناس بسبب المناكفة السياسية المستمرة، ووجود خطابات دينية أخرى معادية لها، ومناصرة لأطراف سياسية تخالفها في التوجه.

ثمّ إن الحكم على الممارسة السياسية من خلال منظومة الحلال والحرام فقط يتنافى وواقع الإمكان السياسي، وهذا لا يعني تجاوز أحكام الحلال والحرام أبداً، ولكن المقصود هو أن الممارسة السياسية التي تتبنى المرجعية الإسلامية محكومة بالمنظومة الإقليمية والدولية لذلك فإنها تبني مواقفها من خلال مراعاة المصلحة المعتبرة شرعاً وذلك بالموازنة بين المصالح والمفاسد واعتبار المآلات، وتحقيق المقاصد الشرعية وفق ما يمكن تحقيقه من خلال فهم الواقع وإدراك مدى الإمكان فيه.

إن اتخاذ كرسي الفتوى منبراً للإصلاح السياسي من خلال إلقاء الفتاوى والمواعظ على الناس وتبني المواقف السياسية على أنها حكم الشرع، وإضفاء الشرعية من خلال الخطاب الديني على طرف دون آخر، لن يؤدّي إلا إلى ذهاب هيبة الفتوى من نفوس الناس، خاصة إذا تغيرت المواقف وتبدلت بتبدل الظرف السياسي، وما رأينا سياسةً أصلحتها الفتيا والوعظ، إنما تصلح السياسة بوعي أهلها والتزامهم بالحد الأدنى من نزاهة التنافس القائم على احترام النظام على الدستور والقانون، والرضا والخضوع لنتائجه، ولن يترسخ هذا الوعي إلا بممارسته –كما أسلفت- واقعاً عملياً يحرص الجميع على الالتزام به، ويقينُنا أن ما تمرّ به بلادنا من أزماتٍ هو ما سيجعل هذا الوعي والالتزام ضرورة وحتماً ينقاد لها الجميع.

إن مؤسسة الإفتاء لم تدرك إلى اليوم موقعها في المنظومة التي تمثل جسم الدولة، وتقف عند حدود دورها المناط بها، لذلك صارت جزءاً من الأزمة وطرفاً في الصراع، والواجب على الذين يحاولون تقديم مشروع إصلاح سياسي من خلال دار الإفتاء أن يسعوا إلى تقديمه من خارجها، لأنها ليست السبيل لذلك، إنما سبيلهم في ذلك الممارسة السياسية المباشرة وإقناع الناس باجتهاداتهم بعيداً عن منابر الوعظ وكراسيّ الإفتاء.

ميثاق مصراتة والزنتان يشدد على مدنية الدولة ورفض الانقلابات

“تيكا” التركية تنظم دورة في العلاج الفيزيائي لمختصين ليبيين