in

نهاية مشروع الاستبداد وتكشّف زيف مريديه

الأحداث الهامة تستدعي دائماً إعادة قراءة المشهد وتقييم المواقف بشيء من التأني والتأمل، ولا شك أن الحالة الصحية لقائد عملية الكرامة خليفة حفتر وما أثير حولها من أخبار وتحليلات ومحاولة استشراف لما يليها من تطوراتها، هي حديث الساعة اليوم، ولست هنا بصدد التوقعات بخصوص حالته، وإنما يعنيني قراءة مشروع الرجل وإلى أين وصل فيه، وهل مازال هذا المشروع قائماً، أم انتهى بشكل رسمي؟.

إن عملية الكرامة التي أطلقها الرجل في 2014 والتي حملت شعار محاربة الإرهاب وبناء مؤسسة أمنية قادرة على تحقيق الاستقرار للبلاد، قد كلفت هذه العملية البلاد جراحاً غائرة في نسيجها الاجتماعي، وخلخلت صرحاً راسخاً لمدينة يعتز الليبيون جميعاً بها ويرونها مثالاً حياً على تداخل مختلف مكوناتهم وانصهارها في بوتقة الوطن، بل إن هذه العملية التي ادعت تشكيل نواة للمؤسسة العسكرية استدعت القبيلة إلى المشهد بشكل مربك وسمج، وجعلتها أداة لخلق زعامة اجتماعية في بزة عسكرية، إضافة إلى استخدام تيار المداخلة في إضفاء الشرعية الدينية على الرجل بوصفه ولي الأمر المتغلب الذي يجب طاعته وإن أخذ مالك وجلد ظهرك، كل هذا والرجل ماضٍ في مشروع استبداد عسكري جديد، لا يلوي على أحد ولا يلتفت إلى محاولات حلحلة الأزمة التي اكتوى بنارها كل أبناء الوطن وكلفتهم على كل المستويات سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وكان من آثار هذه السيطرة العسكرية تعطيل عمل مجلس النوّاب، واختفاء مظاهر المؤسسات المدنية في الشرق الليبي، وحتى صارت البلديات خاضعة لسلطة العسكر بعد أن وُلّي عليها حكام عسكريون، وأيضاً فلن ينسى الليبيون وأهل بنغازي التصفيات الميدانية ومناظر الجثث في العراء وفي حاويات القمامة، في ظل سلطة عسكر الكرامة وبفضل بسطهم الأمن والأمان، والقائمة تطول بما جرّته هذه العملية من آثار مدمّرة لن تمحى من ذاكرة الوطن بسهولة.

وعلى حين غفلة من الدهر غاب الرجل ببزته العسكرية الفارهة وموكبه الفخيم، وشاعت الأنباء وتضاربت بين غيابه عن الوعي وتلف دماغه ومفارقته للحياة، ولا شأن لنا أي الخبرين الصحيح، إنما يعنينا ما انكشف من تخبط معسكر الرجل وارتباكه، وما ظهر من زيف مؤسسة كان يدعي أنه قمة هرمها، وأن مشروعها الوطن وتخليصه من كابوس الإرهاب، لم يعد هناك مجالٌ لأولئك المزايدين بمؤسسة “الجيش”، بعد أن بان للجميع أنها مليشيا تتمحور حول رجل، فلما غاب محورها انمزقت وتشرذمت، وأصبح جلياً بما لا خفاء فيه أن الرجل مقاولٌ في مشروع يقوده محور الانهزام العربي بأثافي شره الثلاثة (الإمارات، والسعودية، ومصر)، وكم هو مُهين أن يكون قرار من يخلف قائد جيش الكرامة (الذي يزعمون أنه نواة الجيش الوطني) في يد هذه الثلاث يناقش في عواصمهم أو في سفاراتهم، بل سيسجل التاريخ أن رئيس مجلس النواب طار مسرعاً ليلبي أمر أوليائه في أبوظبي، ويؤخر لقاء عقدت عليه الآمال يجمعه برئيس مجلس الدولة لعل العملية السياسية تُدفع وقد غاب عنها أبرز معرقليها.

يدرك الجميع أنه بغياب حفتر انتهى مشروعه، وأن دولة الاستبداد الثانية وُئدت، وحتى لو عُين من يخلفه فإن مهمته ستكون مقتصرة على توفير الوقت لإيجاد مشروع جديد، والخيارات دائماً محدودة، والمرجح إعادة إنتاج للتيار الذي يسمي نفسه بالمدني، والذي يرفع شعار الوطنية، ولا يملك من المشاريع إلا رفع فزاعة التخويف من الإسلاميين وتصويرهم على أنهم محور الشر والبلاء، وأنه البديل الوحيد عنهم، هذا التيار نفسه بان زيفه لمّا أن والى العسكر، وفرّط في مدنية النظام، وسكت عن جرائم الكرامة وانتهاكاتها، وهو الذي يدعي الدفاع عن الحقوق وصيانة الحريات، لقد ذاق مرارة موقفه لمّا أن وجد نفسه على هامش المشهد لا يملك من أدوات العمل السياسي إلا البيانات والظهور في وسائل الإعلام، فهل سيستفيد من التجربة؟ وليخبرني أحدهم عن كتلة 94 أين هي اليوم؟

إن التطورات والأحداث التي صاحبت غياب حفتر عن المشهد وإن كانت آثارها غير واضحة اليوم، إلا أنها أثبتت أن ليبيا لم تعد بيئة صالحةً لمشاريع الاستبداد وعصية أن تخضع لحكم الفرد الدكتاتور، وأن المجتمع الدولي بموقفه الرمادي الباهت وتصريحاته المرتبكة والمريبة إزاء هذا التطور الهام أبان عن زيف حياده، وأن المعوّل عليه دائماً وأبداً هو إرادة الشعب التي يصنعها بوعيه ونضاله من أجل وطنه ودولته، التي سيبقى مفتاح سرّها التعايش وقبول الآخر، وحسن إدارة الاختلاف معه، والاحتكام إلى النظام القائم على القانون والمؤسسات، وسندرك ذلك بمرائر التجارب وتقلب الأيام التي أرجو ألا تطول.

الصليب الأحمر ينفي جلب مواد غذائية ملوثة إشعاعيا لليبيا

“السلامة الأوروبية”: إرسال فريق لتقييم السلامة الجوية في ليبيا